قدوتي العلمية

قدوتي العلمية
        

رسوم: ممدوح طلعت

الدمشقي
الرجل الذي رفع وجهه نحو السماء

          هل سمع أحدكم عن صبي يطلق عليه اسم «المطعِّم»؟

          لقد جابت شهرته مدينة دمشق، في العقد الثاني من القرن الرابع عشر.. أو بالضبط في العام 1314م.

          إنه أمهر الصناع في المدينة، حيث اشتهر بتطعيم الخشب بالعاج.

          لقد سبق هذا الصغير «علاء الدين علي الأنصاري» كل أقرانه من الحرفيين في تكوين أشكال بالغة الرونق، وكان ذلك مثار فخر لصاحب المحل «جلال الدين»، الذي كان يبيع قطع الأثاث التي يصنعها الصبي بأغلى الأثمان.

          قال له ذات يوم:

          - يدك مصنوعة من العاج، لذا فأنت ماهر في تطعيم الخشب بالعاج.. رد الصغير:

          - لكنني لا أعبأ بالعاج.. يهمني ما يدور بأعلى.. في الكون.

          وفهم جلال الدين أن ذلك يعني أن الصغير لن يرجع يومًا عن أفكاره، فهو يتمنى أن يكون عالمًا في الفلك مثل ابن عم أبيه المعروف باسم «الشاطر».

          قال جلال الدين:

          - اسمع يا بني، لن أقف عقبة في طريقك.. توكل على الله.

          وكان الصغير يستكمل عمله في تطعيم الخشب بالعاج نهارًا، ويدرس في المساء على يدي العالم «الشاطر»، كان يعرف أن هذه المهنة قد ساعدته في أن يكتسب المزيد من المهارات، وظل يمارس عمله. إلى أن قال له العالم «الشاطر»:

          - إذا أردت أن تعرف المزيد عن  الفلك.. فاتبع النجوم.

          ولم يفهم الشاب أن هذا يعني أن يرحل الشاب إلى أماكن عديدة، إلا بعد أن شرح له «الشاطر» ماذا يعني السفر إلى أي عالم شاب.

          وانتقل بين البلدان.. وذاعت شهرته في ثلاثة أشياء: تطعيم الخشب، والعلم الغزير في مجال الفلك، وجمال الصوت، حين يعتلي المنبر، ويؤذن في الناس أن يأتوا للصلاة.

          وفي مصر، استكمل تحصيل العلوم، وبرع في الرياضيات، وفي علم المواقيت، وجمع المراجع المهمة لأساتذة علم الفلك، واستوعبها جيدًا، وانتقل بين المدن لمقابلة من سبقوه في هذا العلم.

          تعلم أن ينظر دائمًا إلى أعلى.. إلى النجوم، ونجح في أن يحدد مكان الكواكب السيارة، مثلما سبق لكل من الحسن بن الهيثم، والشيرازي أن فعلا.

          لم ينس أبدًا نصيحة أستاذه.. اتبع النجوم.

          وقرر أن يصير صديقًا للنجوم والكواكب، لا يقوم فقط بالبوح لها، والكلام إليها، ولكنه يستجمع المزيد من المعلومات عن كل واحد منها، واستجمع ما لديه من معلومات، وراح يصنفها، ويصوغها في كتب بالغة الضخامة، وتحوي الكثير من الجديد المفيد.

          في كتابه «زيج ابن الشاطر» استطاع أن يحدد مدار «القمر» الذي لم يتمكن أحد من العلماء الذين سبقوه من أن يحدده عن طريق الرياضيات.

          كما تمكن من تحديد مدار كوكب «عطارد».

          وحدد ابن الشاطر المعروف أيضًا باسم «الدمشقي» الكثير من مدارات النجوم، والكواكب كما تمكن من أن يستفيد من مهارته في تطعيم الخشب بالعاج، في ابتكار أدوات علمية تستخدم في قياس الزمن.

          وأيضًا في حساب المعادلات الرياضية.

          واتسمت هذه الأدوات العلمية بالدقة الشديدة، وجمال الشكل، ومن أشهرها ساعة شمسية، وأخرى مصنوعة من النحاس.

          كما ساعد في ابتكار اسطرلاب بالغ الدقة، يخلب العين التي تراه.

          وعندما عاد ابن الشاطر، أو الدمشقي إلى مدينته التي ولد فيها، وحمل اسمها، صار المؤذن الرسمي «للجامع الأموي».. وذاعت شهرته كمؤذن.. فاختاره المؤذنون رئيسًا لهم.

          لم ينس قط مهاراته المتعددة.

          بل إنه مزج بين هذه المهارات معًا.

          واستطاع بذلك أن يتفوق على كل من سبقه في علم الفلك، ومنهم «الطوسي»، و«الشيرازي». سألوه يومًا:

          - هل صحيح أن التلميذ تفوق على أساتذته؟

          كان السؤال مثيرًا للحرج، ولأن علاء الدين الدمشقي، المعروف باسم ابن الشاطر رجل متواضع، فإنه قال:

          - إذا كان هذا صحيحًا، فكم أنا سعيد حين سيتفوق تلاميذي عليّ، وينجزون للعمل ما هو أفضل من كتبي.

          إنه بذلك يعلن إيمانه بأن الغد دائمًا أفضل من الأمس.

          لم يكن «الدمشقي» يعرف أن واحدًا من تلاميذه الذين تبعوه، قد توصل إلى النتائج نفسها، إنه العالم البولندي المعروف كوبرنيكس الذي اعترف بأن العالم العربي قد سبقه إلى النتائج نفسها، لكن الشهرة راحت إلى كوبرنيكس، وظل «الدمشقي» في دائرة الظل.

 


 

محمود قاسم