القطة

القطة

القطة

ترجمها بتصرف: فاروق عبدالعزيز
رسوم: سمير عبدالمنعم

(هل في منزلك قطة?) سألت الفتاة الصغيرة على زلاجتها الرجل الذي كان يسوي بيديه الملاط الطري فوق رصيف الشارع المتهدم.

أجاب الرجل: (نعم لدي قطة كبيرة ضخمة!.....وهي تقول ميوووووه!).

نظرت الفتاة الصغيرة إلى أسفل حيث كان الرجل يعمل بسرعة على يديه وركبتيه ليصقل سطح الملاط قبل أن يجف ويتماسك. وخطر للفتاة الصغيرة أن القصة مدهشة حول القطة الكبيرة. وكانت الطريقة التي ماء بها الرجل بارعة حقا. وفكرت الفتاة في أن الرجل قد يكون هو نفسه القطة الكبيرة على يديه وركبتيه. عندها قال الرجل ميوووووه رافعا رأسه مثل قطة تطلق صوتا خافتا متصلا. ولم يكن الرجل يمزح!

وكان هذا هو أجمل ما في القصة. وشعرت الفتاة نحو القطة بحب شديد.

كان الرجل يعمل فوق رصيف الشارع منذ الثامنة صباحا, والآن تقترب عقارب الساعة العتيقة في معصمه الأيسر من الدقيقة الثلاثين بعد العاشرة. وكان الرصيف واقعا في قلب المنطقة الجميلة من المدينة القريبة من البحر, فالمنازل أنيقة متراصة في نظام بديع, والشوارع شديدة النظافة, ومعظم ساكني المنطقة غادروها إلى مقار أعمالهم منذ الصباح الباكر, بينما ظلت ربات البيوت في منازلهن يستمعن إلى المذياع, ومن أحد هذه الأجهزة انبعثت من ركن الشارع ألحان موسيقية عذبة شجية أطربت أسماع الرجل هذا الصباح.

ولما لم يكن البحر بعيدا, فقد نفذت رائحته المميزة إلى رئتي الرجل الذي أخذ نفسا عميقا ملأهما, ثم قرر أن يأخذ نفسا عميقا آخر! وتذكر أنه ما كان يتنفس, عندما كان يعمل في وسط المدينة, سوى روائح الوقود والعادم المنبعث من السيارات في زحام حركتها التي لا تهدأ.

أما الآن فإنه محظوظ بالعمل في هذا الجزء من المدينة, الذي يشبه الجنة الصغيرة, حيث كان بوسعه أن يملأ رئتيه مباشرة بالنسيم المنعش النقي المصفى الذي يهب رقيقا عليه من جهة البحر مشبعا بهواء المروج الخضراء في الطريق إليه.

كما أسعده وصول الفتاة الصغيرة على زلاجتها وسؤالها عن القطة.

(هل هي قطة طيبة)?.

أجاب الرجل: (إنها طيبة أحيانا, وشريرة أحيانا أخرى).

وسألت الفتاة الصغيرة: (متى تكون قطتك طيبة?).

قال الرجل: (عندما لا تمسك فأرا). قالها وهو يملأ رئتيه بالنسيم النفاذ وكأن خدرا لذيذا يتسلل إلى جسده.

وعادت الصغيرة تسأل: (ومتى تكون قطتك شريرة?).

رد الرجل: (عندما تمسك فأرا). قالها وقد قطب حاجبيه وضيّق فتحتي عينيه.

وأخذت الفتاة الصغيرة تفكر فيما قاله الرجل لفترة طويلة...حوالي عشر ثوان!

وبينما كان الرجل ينتظر سؤالا آخر, بدأ يموء من جديد: ميوووووه...ميوووووه!

وأخيرًا سألت الفتاة الصغيرة: (كيف تمسك القطة بالفأر?).

اتخذ الرجل وضع القطة وهو يروي الحكاية: (حسنا...يلزم لذلك أن تتخذ القطة وضع الاستعداد! فتكمن القطة أولا في مكان خفي لفترة قد تطول وقد تقصر, إلى أن تحين الفرصة حين يخرج الفأر من جحره وقد اطمأن تمام الاطمئنان إلى خلو المكان المحيط من أي أثر للقطة. وفي اللحظة التي يشعر فيها بالسعادة الكاملة وهو يصول ويجول, تنقض القطة على المسكين في لمحة عين!)....وأضاف الرجل وقد تلوّن صوته بنبرة حزينة:

(....الفأر المسكين!).

دهشت الفتاة فرفعت حاجبيها قائلة: (المسكين?!).

قال الرجل وقد سرح ببصره نحو الأفق البعيد: (المسكين).

واصلت الفتاة الصغيرة دهشتها: (المسكين!!).

ومالت برأسها وهي تسأل الرجل: (هل يتأذى الفأر?!).

أجاب الرجل مؤكدا برأسه: (أظن أنه يتأذى كثيرا! وعلى العكس فإن القطة لا تتأذى أبدا. إنها تحب هذه اللعبة كثيرا).

ثم قال الرجل: (ميوووووه!).

بعد لحظة صمت, أضاف الرجل: (ولكني علمت قطتي أن تحب الفأر ولا تطارده....لأني أحبهما معا...القطة والفأر).

وصمت الرجل والفتاة الصغيرة لفترة, عاد الرجل خلالها إلى استنشاق الهواء النقي.

وقبل أن تفكر الفتاة فيما عساها تقوله, وصل فتى صغير على زلاجته وتوقف إلى جوار الفتاة الصغيرة.

سأل الفتى الرجل: (ماذا تفعل?).

رد الرجل: (أرمم رصيف الشارع).

قالت الفتاة الصغيرة للفتى الصغير: (لديه قطة كبيرة وهي لا تطارد الفئران).

تساءل الفتى الصغير في دهشة: (هل يعقل أن هناك قطة لا تطارد الفئران?!).

ورد الرجل: (نعم هناك قطة واحدة....هي قطتي!).

سأل الفتى الصغير: (ما اسمها?).

قال الرجل: (ميوووووه).

قالت الفتاة الصغيرة: (ميوووووه).

قال الفتى الصغير: (ميوووووه!).

ودون أن ينطقا بكلمة ركب الفتى الصغير والفتاة الصغيرة زلاجتيهما وانطلقا وهما يقولان: (ميوووووه!).

بعد مضي ما يقارب الساعة كان الرجل قد فرغ من عمله وهمّ بجمع معداته القليلة في صندوق خشبي. وقبل أن يغادر موقعه تطلع صوب البحر, وأخذ نفسا عميقا من الهواء البحري الصافي المشبع بأريج الزهر, وأحس به يفتّح منخريه بينما تدفق النسيم ليملأ رئتيه للمرة الأخيرة. بعدها انحدر الرجل مع الشارع ليستقل حافلة إلى قلب المدينة.

حين عاد الفتى الصغير والفتاة الصغيرة كان الرجل قد رحل, توقفا معا يتأملان العمل المتقن الذي قام به الرجل. فقد صارت تلك البقعة من الرصيف جديدة جميلة ملساء نظيفة تماما.

قالت الفتاة الصغيرة: (صار الرصيف الآن مستويا ونظيفا بفضل عمل الرجل الطيب صاحب القطة الطيبة ميوووووه).

وعلّق الفتى: (مازال الملاط طريا لم يجف بعد.....ميوووووه!).

ثم التقط غصنا صغيرا ونقش به أحرف اسمه الأولى.

وسأل الفتاة الصغيرة: (ما اسمك?).

وأخبرته الفتاة باسمها. فنقش الفتى حرفين جديدين في الملاط الطري.

وفكر الفتى في أنه سيكون جميلا جدا أن ينقشا اسميهما في الملاط الطري حتى إذا جفّ وتصلّب بقي اسماهما إلى الأبد.

وفكرا في أن هذا شيء مذهل. فسرعان ما سيكبران ويتخرّجان من المدرسة وسوف يسافر هو إلى مكان بعيد, ربما إلى مدينة كبيرة أو إلى قارة أخرى, وسوف يعود يوما إلى مدينته الصغيرة وإلى هذه البقعة من هذا الحي الهادئ لكي يفاجأ أثناء سيره على هذا الجانب من الرصيف بأحرف اسمه الأولى ماتزال منقوشة إلى جوار أحرف اسم الفتاة الصغيرة التي كان يلعب برفقتها في هذه البقعة.

قالت الفتاة الصغيرة: (كان رجلا طيبا ولطيفا).

وأضاف الفتى: (بكل تأكيد).

وأمسك الفتى الصغير بالغصن الصغير مرة أخيرة لكي ينقش في المنتصف تماما من اسميهما حرف (ميم), والتفت إلى الفتاة الصغيرة وسألها: (كيف تتهجين ميوووووه?).

ردت الفتاة الصغيرة: (ميووووه? لا أعرف. هل هي كلمة?).

قال الفتى الصغير: (نعم بالتأكيد).

ثم قال ميوووووه وهو يحاول أن يتصور كيف يمكن تهجّي هذا الصوت. ومع ذلك لم يتمكن من تهجيه.

سأل الفتاة الصغيرة: (ماذا أكتب الآن? فأنا لا أستطيع أن أتهجى ميووووه, ولا أنت أيضا).

وسرى الفتى الصغير بأنامله فوق حرف (ميم) ليصقله, غير أن المنظر لم يسره كثيرا فقرر أن يكتب شيئا آخر في بقعة أخرى من الرصيف الطري.

أراد أن يحتفظ بالرجل صاحب القطة في ذاكرته لأنه كان يدرك أهمية ذلك كالفتاة الصغيرة تماما.

وأخيرا نقش كلمة: (القطَّة). ثم قال ميووووه. وكذلك قالت الفتاة الصغيرة: (ميوووووه).

ثم ركب الاثنان زلاجتيهما وانطلقا بهما منحدرين صوب البحر.

 

 


 

ويليام سارويان