سِرُّ المكتبة

سِرُّ المكتبة

سِرُّ المكتبة

رسوم: جيهان بدراوي

رمى نبيلٌ, وهو طفلٌ في التاسعةِ من عمرِهِ, قطعَ الخشبِ الطويلةِ التي كان يحاولُ جمعَها لتكوِّنَ مكتبةً صغيرةً, ثمَّ أبعدَها بقدمِهِ اليمنى قائلاً:

ـ لا فائدةَ مِنَ المتابعةِ.

ثمَّ غادرَ غرفتَهُ وعلاماتُ الغضبِ ظاهرةٌ على وجهِهِ وفي عينيهِ.

وإذ كانَ والدُهُ في المطبخِ القريبِ من الغرفةِ يعدُّ الشايَ, ناداهُ قائلاً:

ـ ما بكَ يا نبيل?

وقبلَ أن يتفوهَ نبيل بحرفٍ, كانتْ أختُهُ غنوة, التي تصغرُهُ بعامٍ واحدٍ, تقفُ قربَ والدِها وقد قفزَتْ من شرفةِ المطبخِ إلى الداخلِ معتقدةً أنَّ مشكلةً ما قد حصلتْ.

ولم يستطعْ نبيل أنْ يُخفيَ آثارَ الغضبِ رغمَ أنَّهُ حاولَ كي لا يقعَ تحتَ تأثيرِ نظراتِ أختِهِ المنتظرةِ هفوةً أو خطأً يصدرُ عنهُ.

تنهدَ, ثم أطرقَ محاولاً أنْ يُخفضَ صوتَهُ قدرَ الإمكانِ على عادتِهِ وقتَ يتحدثُ مع الكبارِ:

ـ إنَّ السببَ, يا أبي, هو هذه الأرفف التي لا يمكنُ أن تجمعَ كما في الصورةِ الموجودةِ في الدليلِِ المُرفَقِ بها.

قالَ الأبُ:

ـ إنَّ هذا مؤسفٌ..ولكن..ما السببُ?

قال نبيل:

ـ كلُّ شيءٍ يسيرُ عكسَ ما أريدُ, فأجزاءُ المكتبةِ لا تلتئمُ الواحدةُ بالأخرى, كما أنَّ البراغي لا تُشدُّ.

قالتْ غنوة:

ـ أعتقدُ أنني سمعتُكَ تقولُ بأنَّكَ ستجمعُها بلحظةٍ واحدةٍ, وكانَ ذلكَ قبلَ ساعتينِ.

نظرَ نبيل إلى أختِهِ دونَ أن يجيبَ على تعليقها الذي أرادَتْ من خلالِهِ أن تستفزَّهُ, وقالَ لأبيه:

ـ هناكَ خطأ في صناعتِها.

كتمَتْ غنوة ضحكتهَا, وسألَتْ أخاها وعيناها تلمعانِ بشدةٍ:

ـ يعني?

قالَ نبيل:

ـ يعني سأتركُها وأخرج لألعبَ مع رفاقي.

قالتْ غنوة:

ـ يعني يئستَ, وفشلتَ..طبعاً..لأنكَ رفضتَ أنْ أساعدَكَ.

قال نبيل:

ـ أنا لا أقبلُ مساعدةَ فتاةٍ صغيرةٍ.

ـ أنا أصغرُ منكَ بعامٍ واحدٍ.

قال نبيل:

ـ نعم... وقد كنتُ قبلَ عامٍ أرضعُ زجاجةَ الحليبِ.

أخذ الأب يديِّ ولديه قائلاً:

ـ حسناً.. حسنًا..كُفَّا عن صراعِكُما الطفوليِّ هذا وتعاليا لنجربَ تركيبَ المكتبةِ.

دخلَ الثلاثةُ إلى غرفةِ نبيل, وراحوا يتأملونَ قطعَ الخشبِ المرميةََ أرضاً, وفي الجانبِ الآخرِ من الغرفةِ كانتْ مجموعةٌ من الكتبِ قد تكومتْ أيضاً.

حملتْ غنوة أحدَ الألواحِ, وراحتْ تتأمل ثقوبَهُ التي يجبُ أن تدخلَ البراغي فيها, وقالت:

ـ أرى أنَّ هذه المكتبة قد تكونُ أحسنَ مما تظنُّ يا نبيل.

وراح الأبُ يقلِّبُ نظرَهُ في بقيةِ الأجزاءِ, ثمَّ في الدليل المرفقِ بها, وقالَ:

ـ أعتقدُ أنَّ غنوة على صوابٍ, إذ يظهرُ لي أنكَ لم تتبعِ الإرشاداتِ جيداً, ولو أنكَ فعلتَ وركبتَ كلَّ جزءٍ كما يجبُ, لكنتَ وفرتَ على نفسِكَ كلَّ هذا العناءِ.

علقتْ غنوة:

ـ كانَ وفر على نفسهِ وعلينا أيضاً.

نظرَ نبيل إلى أختِهِ مقطباً, ثم همسَ في أذنِها:

ـ وقتُكِ من ذهبٍ.

فرفعَتْ رأسَها عالياً وقدِ اتسعَتِ ابتسامتُها, بينما طلبَ والدُهما منهما أن يراقبا ما يفعلُ.

أخذَ قطعتينِ من الخشبِ كان نبيل قد طرحَهما جانباً, ثم تأنَّى وهو يضعُهما معاً, فاندمجتا حتى أصبحتا كأنَّهما قطعةٌ واحدةٌ, خاصةً بعدَ أن شدَّ البراغي المخصصةَ لهما, فهتفتْ غنوة وهي تشيرُ لأخيها بسبابتِها إلى إنجازِ أبيها:

ـ انظرْ كيفَ لاءَمَتْ إحداهُما الأخرى.

ابتسمَ نبيلٌ وهو يلمس متانةَ الخشب:

ـ فعلاً.

وتابعَ الأبُ عملَهُ وهو يقول:

ـ بقليلٍ من العنايةِ, وبقليلٍ من الوقتِ مع الصبرِ يتمُّ كلُّ أمرٍ كما نريدُ.

قال نبيل:

ـ صحيحٌ يا أبي.

وقالت غنوة:

ـ صحيحٌ يا أبي.

وتابعَ الأبُ:

ـ تأكدا أنَّ الإنسانَ لا يتقدمُ في هذه الحياةِ إلا إذا تمرسَ بالصبرِ والثباتِ. نعم يا نبيل, ويا غنوة, علينا أن نثابرَ ونصبرَ مجتهدينَ إلى أن نتغلبَ على صعوباتنا, وها إنَّ المكتبةَ تكادُ تكون جاهزةً. أعطني المفكَّ يا نبيل.

أعطى نبيل والدَهُ المفكَّ, بينما ناولتْه غنوة الرفَّ الأخيرَ حيث راحَ يثبتُهُ في مكانِهِ قائلاً:

ـ تذكرا أنَّ سرَّ الجودةِ هو الإتقانُ, وأنَّ إتقانَ الشيءِ إحكامُهُ.

ابتسمَ الولدانِ وهما يتأملان إنجازَ والدِهِما وأعلنا أنَّه متقِنٌ حاذِقٌ. وعندما تراجعَ الأبُ خطوتينِ إلى الوراءِ لتأمل المكتبةِ التي بدأ ابناهُ يصفَّان الكتبَ على أرففِها, قال:

ـ تذكرا دائماً أنه إذا عملَ أحدُكُم عملاً فعليه أن يتقنَه.

قالا معاً:

ـ سنتذكرُ.

ورفعَ سبابتُهُ قبلَ أن يغادرَ الغرفةَ:

ـ أتقنا عملَكما ثم اتبعاني لنشربَ الشايَ معاً, وأعتقدُ أن والدَتَكما قد أعدَّتْ لكما قالبَ حلوى تدلٌّ رائحتُهُ المنبعثَةُ من المطبخَ أنه في غاية الإتقانِ.

 


 

إيمان بقاعي