الصداقة الثمينة

الصداقة الثمينة

الصداقة الثمينة

رسوم: أحمد الخطيب

لا يذكر الكنار (أنيس) نفسه إلا وهو في وسط بيته الواسع والنظيف. فبيته إجاصي الشكل مزخرف ومليء بلعب تتدلى من سقفه, هي هدايا عزيزة على قلبه لأنها من صديقه الحبيب كريم,الابن الوحيد لصاحب المنزل.

أجمل أوقات (أنيس) في الصباح والمساء, في الصباح تشرق الشمس وينقل كريم (أنيس) من غرفة الجلوس الداخلية المظلمة إلى غرفته المنيرة, يضعه على مكتبه ويجلس قبالته يراجع دروسه. عندئذ يدس أنيس رأسه في الماء, يشرب ثم يستحم, ويأكل وقد أخذه الطرب, وينجح دائمًا بلفت انتباه كريم. يبدآن اللعب ويتعالى صراخ (أنيس) لأن صديقه يربح دائمًا, إلا أن كريم يغدق عليه بالكلمات اللطيفة والنكات المضحكة حتى يصفو الجو مجددًا, وعندما يتعالى زمور الباص, يهرول كريم مودّعًا, ويغادر إلى المدرسة. قبل غروب الشمس يقرر كريم أنه الوقت ليعيد (أنيس) إلى الغرفة الداخلية. يطلقه في غرفة نومه ريثما ينتهي من تنظيف بيته الصغير. يحط (أنيس) على كتف كريم الذي يحاول إبعاده لإتمام المهمة لكن (أنيس) يصرّ على أن يراقب عن كثب ليشارك في نظافة بيته.

ذات يوم اقترب المساء, فهاهي الكرة الكبيرة المشعْة تتوارى خلف تلك المباني البعيدة و(أنيس) يراقب للمرة الأولى لونها يتغير إلى الاحمرار وكأنها تنسحب وتسحب معها كل خيوطها. لحظات قليلة ويضج البيت بالأضواء والحركة. بقي الهدوء يعم المنزل, لقد تأخر أصحابه على غير العادة, أين كريم الآن?

تسربت النسمات الباردة مع الظلام شيئًا فشيئًا حتى شعر أنيس برهبة الوقت والانتظار, ومع كل ضوء يشع في المساكن والمباني المجاورة كان المكان يتغير, فتقوقع على نفسه بحثًا عن الدفء واستسلم للانتظار. أغلق عينيه ثم مالبث أن فتحهما بهرته الأشياء المشعة في السماء. أخذه المنظر الرائع, كيف التقت كل هذه النقاط الصغيرة البراقة وملأت كل السماء? شعر بإحساس غريب وفي قمة شعوره بالروعة سمع خربشة عكّرت صفو سكونه. انتفض من مكانه يتفحص مصدر الصوت الذي يقترب. حدّق بصعوبة في الجدار المظلم. رجف قلبه عندما التقت عيناه بعينين صغيرتين. تأمل هذا الشيء الذي صار بلمح البصر على سطح المكتب قريبًا منه. لمحه....لمح جسمًا يكبره حجمًا وله ذنب طويل طويل. اقترب منه الجسم فزعق (أنيس) وارتفع على الفور إلى أعلى مكان في بيته وتسمر في مكانه متمسكًا بالقضبان جيدًا. صار الجسم الغريب ذو الذنب الطويل داخل البيت. تصاعدت نبضات قلب (أنيس) ونفض جناحيه بقوة عندما بدأ الجرذ يحاول الوصول إليه. انتفض (أنيس) مجددًا وطار للجهة الأخرى من البيت. أحسّ بالخطر الشديد والجرذ يترصد للقفز عليه. اهتز القفص وبدأت المعركة الحقيقية. إلى أين المفر? في هذه اللحظات أحس (أنيس) بطعم القيد المر وخراميش الجرذ تكاد تطاله وريشه انتشر في فضاء القفص...أواه على الفضاء الرحيب. وما أضيق العالم داخل هذا القفص. دقائق البؤس تركت بصماتها على جسده الذي خار وتعب صوته الجميل من الصراخ...تبعثر كل شيء في القفص الذي لم يكف عن الاهتزاز وفي غمرة صراعه مع عدوّه الذي لم يكل, صلى (أنيس) من كل أعماقه أن يحضر صديقه لإنقاذه. إنه أمله الوحيد في العالم, يا للدنيا وقسوتها داخل قفص!

تذكر العصافير التي حطت على شباك الغرفة وحاورته. أخبرته عن الحرية وأخبرها عن صداقته الثمينة لكريم وعناية كل منهما بالآخر, هل غاب عن الوعي? أم..? ما هذه الأضواء التي تملأ دنياه, سمع لغوًا من بعيد. فتح عينيه جيدًا وكأنه.. بل هو كريم.

شعّت الأنوار في غرف المنزل, ها قد عادوا وعادت الحياة ترقص في قلبه, أنار كريم الغرفة. ضوء الأمل كان أسطع. نجا من آخر محاولة كان سيكون ضحيتها. فر الجرذ اللعين وكريم يصرخ والدموع تنهار من عينيه لاعنًا الجرذ ومحاولاً اللحاق به بالمكنسة و(أنيس) يصرخ ويصرخ خائفًا, معاتبًا, مسرورًا, غاضبًا, ومبتهجًا. صار في أحضان كريم بثوان قليلة, ينهال عليه هذا بقبلة, نسي اللحظات التي ترادف فيها البيت والسجن في المعنى, اطمأن قلبه للصداقة الثمينة التي تجمع بينهما. قال والد كريم: (إنه حظنا السيئ يا بني, لقد انقطعنا في مكان بعيد وناء, وأنا أحمد الله أننا رجعنا إلى المنزل في الوقت المناسب).

كان الحوار كافيًا بين كريم ووالده, فقد سامح أنيس كريمًا, هاهو قد داواه جيدًا ونظّف له بيته فعاد الاطمئنان يملأ قلبه. سمع كريم يخبر والديه أنه سيجلب لأنيس بيتًا واسعًا وأصدقاء جددا وسيضعه في مكان بعيد عن خطر الجرذان و...و...لم يعد (أنيس) يصغي الآن لأنه راح يغط في النوم العميق مستسلمًا لهذه الأحلام الوردية.

 


 

سناء شيباني