سيدات صغيرات

سيدات صغيرات

رسوم: هدى وصفي

عند البوابةِ السوداءِ الحديديةِ الأنيقة, الحارسة ثلاثة طوابق, وقفت (ماما عصمت), خالةُ الفتياتِ الصغيراتِ, اللواتي لا تفصل بين أعمارِهن إلا سنة, وكبراهن في الثالثة عشرة, وقد انتظرت إيابهن من المدرسة, وشقّت البوابةَ, واضعة على رأسها (إيشارباً) صغيراً يشبه (إيشارب) الدمى الروسية(ماتريوشكا) التي لديها الكثير منها موزعة في صالونها, ونادت بصوتها الرفيع, إذ لمحتهن يقتربن:

- آمال.. آلاء.. مها.. لولو..

تسارعت خطوات الصغيرات متجهة إلى البوابة, مُنْزِلاتٍ حقائبهن عن ظهورهن أرضاً وواقفات منتظراتٍ الامتحان اليومي السريع الذي لا يلغيه أي ظرف.

  • - هيا.. بالدور...أنتِ, آمال: 5 × 7? آمال:35.
  • - أحسنت! وأنتِ, آلاء: 3 × 4? آلاء: 12.
  • - أحسنت.. وأنتِ, مها: 7 × 7? مها: 49.
  • - أحسنتِ...وأنتِ, لولو: 8 × 8? لولو: 64.
  • - لا.. لا...8 × 8 = 64?

- نعم... طبعاً!

قالت الفتيات بصوت واحد مؤكِّدات جواب لولو, مما جعل خالتهن تراجع حساباتها, وهي مغمضة العينين لتعلن:

8 × 8 = 64. صحيح.< /STRONG >

- طبعاً صحيح.

جاءها صوت زوجها من خلفها ممازحاً الصغيرات:

- فتياتنا الصغيرات لا يخطئن, وخاصة لولو.

تعلقت الفتيات برقبة (جدو الحجي) وقبّلن وجنتيه.

إنه يأتي, دائماً, في الوقت المناسب, ليقف معهنَّ. وهو, إلى هذا, مرجع عظيم عند حل المسائل الرياضية الحقيقية الأبعد من جدول الضرب الذي تخصصت به ماما عصمت ولم تتجاوز معرفتها الرياضية غيره.

كما أن أصعب كلمة إعراب يمكن أن يذللها (جدو الحجي) ويعطي جوابها إلاّ إذا كان غير متأكد منها. وقتها, يعود إلى مكتبته الخشبية البنية الأنيقة ذات الأبواب الزجاجية النظيفة, والكتب الصفراء شبه المهترئة, ويجلس على الكرسي الخاص به والملاصق لها ليبحث ويبحث ويبحث ويجد جواباً يعطيه مع احتمالاته, إن كان له ثمة احتمالات, ولا يرضى إلاّ أن يعرف, في اليوم التالي, ما استقرت عليه المعلمة, والويل إن قدمت حلاً يخالف حله الذي بذل جهد ساعات قضاها باحثاً عنه.

طريقُ العودةِ, دائماً, طريق امتحان جدول الضربِ. أما طريقُ الذهابِ إلى المدرسة, والذي لا بد أن يمرَّ بتلك البوابة الآخذة موقعاً استراتيجياً متوسطاً ما بين المدرسة وبيت الصغيرات, فهو طريق الزوادة (التزود بما يحبون), فـ (ماما عصمت), التي تستيقظ قبل الديك بساعة أو أكثر, لتعدّ الشاي لـ (جدو الحجي), ليشربه بعد صلاة الفجر ثم يجلس لقراءة القرآن الكريم, تقف في المطبخ تعدّ ثمانية سندويشات صغيرة لكل فتاة اثنتان واحد من اللبنة والنعنع اليابس, والآخر إما أن يكون من الزبدة والمربى, أو من الزبدة والعسل.

وتعلل ماما عصمت اهتمامها بإطعام الصغيرات, بأن أمهنّ لديها, بعد, في المنزل صغيران لا يذهبان إلى المدرسة, ويحتاجان إلى رعاية دائمة بينما هي ليس لديها أطفال يأخذون منها الوقتَ والجهد, والصغيرات هنَّ بناتها أكثر مما هنّ بنات أختها, التي تصغرها بعشرين عاماً, وهنّ, أيضا,ً بمثابة حفيداتٍ لزوجها الذي يكبرها بحوالى ثلاثين عاماً.

فالبيتُ الأساسي, حسب اعتبارها, هو بيتها الذي يجب أن تنشأ فيه ومنه الصغيرات اللواتي سوف يصبحن سيدات عمّا قريب ولا يمكنهن انتظار أن يكبر شقيقاهما لتتفرغ الأم لهنّ لأن الزمان, حسب قولها, لا ينتظرنا أن نفرغ من أعمالنا.

بيتُ الصغيرات هو بيت كتابة الفروض المدرسية. هو بيت تناول الوجبة الرئيسية, الغداء. وهو, طبعاً, بيت المنامة اليومية.

فترة ما بعد الظهر, هي فترة ما بعد كتابة الفروض وتناول الغداء, هي فترة الأناقة.

تلبس الفتيات ثيابهن الجميلة ويسرحن شعورهن وينطلقن.

غرفة الجلوس واسعة عند ماما عصمت. وفي الجعبة أكياس وبُقَج تثير الخيال, وتُفْتَحُ, عند الطلب, وحسب البرنامج النسائي المرسوم من قبل المعلّمة (ماما عصمت)!

فأسبوع يخصص لتعليم الفتيات كيف يفتحن عروة, وأسبوع كيف يخطن الأزرار, على أنواع ثقوبها, وفي كل حالاتها, وأسبوع لتعليمهن شك الخرز, وأسبوع لشك الخرز مع البَرَق, وأسبوع لأشغال الكانفا, وآخر لاستعمال الصنارة والكروشيه, وواحد لشغل الصوف بالصنارتين, و... ثمة أغنيةٌ لشغل الصنارتين ترددها الصغيرات وهنّ في مراحل الشغل فيها:

ـ (شكّةْ... لفّةْ... طَلّعي القطبةْ... اسحبيها...)

ومع كل قطبة تُشغَلُ, تنطلق الأغنية مُنجِزَةً عملاً صغيراً, يكبر, يصبح كنزة, أو شالاً, أو (زرموزة) تنتعلها الأقدام الصغيرة وتدفئ أكثر من غيرها.

إنها من شغل أيديهن.

أما التطريز, فأسبوع واحد لا يكفيه... فهو متنوعٌ وصعب, وهو يحتاج إلى دقة وذوق أيضاً.

نعم! كان على (ماما عصمت), أيضاً, أن تنمي ذوق الصغيرات, فتخرج, من خزانتها مطرزاتِها, وتعرضها على الطاولة الكبيرة, أمام الأعين الدَّهِشَةِ, وتشرح ألوانها وتناسبها مع اللون الرئيسي الذي طرزت عليه, وتشرح, أيضاً, علاقة اللون بأثاث المنزل, بالمقاعد, والستائر, وحتى السجادة.

ويبدأ تطبيق ما عُلِّمَ, وقت تُشرى القماشات الملونة, والخرز, والخيوط, والصوفَ, وقطع الكانفا, وكان (جدو الحجي), يوزع الهدايا للفائزات بأجمل عَمَلٍ منتهٍ, وكانت الفتيات كلهن, دائماً, فائزات, والهدية عبارة عن كتب مبسطة في التدبير المنزلي يختارها بنفسه من مكتبات السوق ويردد بنبرةٍ أستاذيةٍ وهو يقدمها:

- حتى لو صرتن طبيبات, أو مهندسات, أو محاميات, أو أستاذات, فهذه الكتب تساعدكنّ أن تكنّ, أيتها السيدات الصغيرات, سيدات!.

 


 

إيمان بقاعي