حكايات الإسكافي

حكايات الإسكافي

كلما مرّت سمية بسوق البلدة, راقبت بسعادة الرجل العجوز الذي يعمل في دكان صغير بصمت, وينحني فوق طاولته الواطئة طوال الوقت.

يناديه الجميع باسم (الحاج), ولم تكن سميّة تستطيع التحدّث معه, لأن أمها كانت تمسكها بيدها أثناء عبور السوق, وتمضي بها لشراء الأغراض, وهي طالما تمنّت أن تستمع من (الحاج) إلى حكايات كحكايات جدّها, وتتعرّف إلى الأدوات التي يعمل بها, وتعرف منه اسمه الأصلي, وكانت أمها تعدها أن تجري معه هذا الحديث في يوم آخر.

هل تتساءلون ما هو عمل هذا العجوز? لن تخطر الإجابة ببالكم, فمهنته لم تعد موجودة في أيامنا هذه. إنه إسكافي أو (كندرجي), أي صانع الأحذية أو خيّاط الأحذية, ففي القديم كان الإسكافي يخيط الأخفاف, ويصلحها كلما فسدت واهترأت. ولكن (الحاج) لم يعد يصنع الأحذية, فمنذ ظهرت مصانع الأحذية صار يكتفي بالتصليح, كاللصق بالصمغ والخياطة ودقّ المسامير وتركيب النعال.

غياب الإسكافي

ولكن منذ أسبوعين لم يفتح (الحاج) دكانه. وقد لاحظت سميّة هذا وقلقت عليه, وطلبت من أمّها أن تأخذها إلى بيته كي تزوره وتطمئن عليه.

في يوم الإجازة زارت سمية وأمها (الحاج) في بيته, وعرفتا سبب غيابه عن الدكان.

كان (الحاج) يجلس أمام بيته يقرأ القرآن الكريم. رحّب بزائرتيه وأجلسهما إلى جواره, وقدّم لهما العصير. قالت أمّ سميّة: (إن ابنتي الصغيرة قلقة عليك لأنك لم تفتح الدكان منذ أيام, وهي تحبّك كجدّها الذي توفي منذ عامين).

ابتسم (الحاج) واحتضن الصغيرة قائلا إنه يعتبرها كحفيدته أيضًا, وأنه سعيد جدا بزيارتها وعاطفتها. ثم قال: (الحمد لله على كل ما يكتبه لنا, لم أعد قادرًا على العمل, ولم تعد لي فائدة. بعد تسعين عامًا من العمل والكدّ والشقاء آن لي أن أرتاح).

لم يعد أحد يصلح حذاءه

بعد قليل قام الحاج ونادى دجاجته وراح يطعمها. ثم قال: (لدي دجاجة أتسلّى بها, ومعظم وقتي أقضيه في قراءة القرآن الكريم).

سألته سميّة: (ولكن مَن سيصلح الأحذية بعد اليوم?).

فأجابها الحاج: (لم يعد الناس يصلحون أحذيتهم هذه الأيام. عندما يصير الحذاء قديمًا يرمونه ويشترون حذاءً جديدًا, أما في الماضي فقد كانوا يصلحون الحذاء عشرات المرات, وكانت مهنة الإسكافي في حال جيدة, ولكنها تحوّلت اليوم إلى تراث, إلى ذكريات).

تراث

حكى (الحاج) حكايته مع هذه المهنة التراثية: (في البداية عملت في تجارة الأقمشة. لم أكن طبعًا تاجرًا كبيرًا, بل مجرّد بائع متواضع أحمل الأقمشة على كتفي وأبيعها في الأسواق والبيوت. ثم صرت أسافر من لبنان إلى فلسطين لبيع القماش مع زملائي الباعة. كنا نمضي ثلاثة أشهر في السفر فوق الحمير. ونغيب شهورًا عن بيوتنا وعائلاتنا. إلى أن مرضت وأنا في الأربعين من العمر. أجريت عمليات جراحية عدة, ولم أعد قادراً على التنقل من مكان إلى آخر. كنت ربّ أسرة كبيرة وكان الرزق قليلاً, ولكن الله لا يترك عباده, استأجرت ذاك الدكان الصغير ورحت أصلح الأحذية لأهل الضيعة. سنة بعد أخرى كبر أولادي وصار لكل منهم مهنة, واعتمدوا على أنفسهم. وبقيت أنا أداوم على العمل برغم تقدّم العمر وبرغم المرض, ولكن عدد الزبائن تناقص كثيرًا ولم أعد أرى جيدًا, فقرّرت أن أرتاح في البيت).

سباق الحمير و(جرن الكبة)

من دون أن تطلب سميّة راح (الحاج) يحكي حكايات جميلة وممتعة عن أسفاره, وذكرياته. أمتع الحكايات كانت عن (سباق الحمير) الذي كان يجري في الضيعة, وفيه يفوز الحمار الأسرع بكيس من الشعير. كذلك مسابقة (جرن الكبة), وهو عبارة عن جرن من حجر الصوان يتبارى الرجال الأقوياء في حمله أطول مدة ممكنة, وبما أنه ثقيل, فإن القليلين فقط يستطيعون حمله, والذي يفوز يطلق عليه اسم البطل أو (القبضاي), وينال إعجاب الصبايا واحترام الرجال.

جدّ الصغار

بعد كل هذه الحكايات غادرت سميّة وأمها, وبينما هما تبتعدان عن منزل (الحاج) تذكرت سمية أنها لم تسأله عن اسمه الأصلي, فطلبت من أمها أن تحضرها لزيارته ثانية لتسأله.

وجميع العرب الصغار يطلبون من سميّة أن تخبر (الحاج) في زيارتها المقبلة له, أنه ليس بلا فائدة, كما يقول عن نفسه, فهناك الكثيرون من الأطفال استفادوا واستمتعوا بحكاياته, وسعدوا بالتعرّف إليه, وشعروا أنه كجدّهم.

 


 

بسمة الخطيب

 
















يطعم دجاجاته