قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

رسوم: ممدوح طلعت

أبو زكريا بن العوام... مَنْ غَرَس غَرْسًا!

(أبي...إلى أين أنت ذاهب في هذه الساعة من الليل?)...

إنه السؤال الذي طرحه الصغير على أبيه, عندما سمع حركة غير عادية في المنزل, ورغم أن هذا يحدث كل يوم, فإن الطفل الذي صار الآن في السابعة, قد استيقظ اليوم على حركة مألوفة في المنزل.

قال الأب محمد بن العوام الاشبيلي:

- الآن, وقد صرت في السابعة, لماذا لا تأتي معي إلى المسجد...?

وخرج الصغير مع أبيه إلى المسجد لأول مرة, وسمع الأذان عن قرب, وتوضأ بإرشاد من أبيه, ووقف إلى جوار الكبار يؤدي الشعائر, وبعد قليل, خرج الاثنان من المسجد, قال الأب:

- هل تأتي معي...أم تعود إلى المنزل?

وكانت الإجابة معروفة, فطالما أنه قرر الخروج مع أبيه, فلماذا لا يستكمل الرحلة? كان الأب في طريقه إلى الحقل, إنه فلاح بالغ المهارة, يسكن في الأندلس, خاصة منطقة أشبيلية منذ أن جاء أجداده المسلمون الأوائل لنشر الإسلام في إسبانيا.

ورأى الطفل أباه, وهو يقوم بعمله, بهمّة ونشاط...

إنه يضع البذور, ويحرث الأرض, ويستخدم الدواب في عمله...

وظل الطفل يراقب أباه طويلا, ليس فقط طيلة اليوم, بل لأيام عدة وذلك قبل أن يبدأ في المشاركة في هذا العمل الجميل.

اكتشف الطفل أن أطفالا آخرين يشاركون آباءهم في أعمال الحقل, وأن الفلاحة عمل رائع وجذاب....

قال الأب:

- نحن نضع البذور في الأرض, ونرويها بالماء, ونضع السماد كأنه غذاء للنبات, وبعد أشهر نجني الثمار...

واكتشف الصغير, أن ما يفعله أبوه يُفيد الناس جميعا, فعندما حصدوا البرتقال جاء التاجر ليأخذه إلى المدينة, وعندما تم حصاد القمح, عرف الصغير أن القمح يتم طحنه, وتحويله إلى دقيق, ثم خبز, حيث يتناوله الناس في كل مكان.

واكتشف الصغير أن ما يفعله أبوه, قد ورثه عن جده, وأن هناك قواعد للزراعة وتربية الحيوان, وما يسمى في تلك الفترة, من القرن الثاني عشر الميلادي بـ (الفلاحة) ومرت الأيام, والأشهر, والسنوات.

وصار الطفل شابا, عمل بالفلاحة, بعد أن تعلم أصولها.

وذاعت شهرة المحاصيل التي يزرعها, وحيوانات الحقل التي يتولى تربيتها, والطيور التي يعتني بها.

وعندما ذاعت شهرته, أرسل له الخليفة يطلب منه زيارته في أشبيلية, وقال له:

- من أجل أن تزدهر الفلاحة أكثر, قم بتعليم الفلاحين كيف تكون الفِلاحة.

وصار (أبو زكريا) أشهر من يعلم الناس أصول الفلاحة.

وأصبحت الفلاحة علما على يديه, وعندما كثر عدد تلاميذه, قرر أن يضع خبرته الطويلة في كتاب ضخم...

وراح يقسم أوقاته: وقت للعبادة, ووقت للفلاحة, وثالث لتعليم الفلاحين الجدد, ورابع لتأليف الكتاب.

اكتشف (أبو زكريا) أن أصل الفلاحة هي الأرض.

فالأرض الخصبة, هي التي تنمو فيها المزروعات قوية, والنباتات الخضراء ويعيش الإنسان فوقها, ينعم بخبراتها, وإلى جواره حيواناته, وطيوره.

واكتشف أن الأرض الزراعية أنواع: أرض طينية سوداء, تصلح لزراعة الأرز, والقمح والخضراوات, وأرض تخلط بين الرمل والطين, يمكن أن تنمو فيها أشجار الفاكهة, ثم هناك أرض صفراء ينمو فيها النخيل, وأشجار الزيتون والرمان.

واكتشف أن تربية الحيوان على أسس سليمة تساعد في أن يرتقي الفلاح في حياته, فالجسم السليم للحيوان يعطي أفضل النتائج, في إنتاج اللبن, واللحم المفيدين للإنسان.

وتحدث ابن العوام, عن الأشجار, وتقليمها, وكيف تكون الشجرة, أكثر قوة وإثمارًا كلما قام الفلاح بقص أطرافها.

وقال العالِم العربي إن وضع الأسمدة القوية في الأرض يزيدها ثراء, فالأسمدة بمنزلة غذاء حقيقي للنبات, وكلما كان السماد متنوّعا في مواده, استطاع النبات أن يكون أكثر قوة.

وفي نهاية كتاب الفلاحة, الذي ألفه (ابن العوام) استعان بالحديث النبوي الشريف: مَنْ غَرَسَ غَرْسًا أو زرع زرعًا, فأكل منه إنسان أو طائر أو سَبْعٌ كان له صدقة .

 


 

محمود قاسم