الرسام الماهر

الرسام الماهر

يصورها: فهد الكوح

كانَ أحمدُ جالسًا إلى مكتبهِ, يقرأُ قصةً, فخطرَ ببالهِ أنْ يرسمَ منظرًا جميلاً. وضعَ الكتابَ جانبًا, وتناولَ القلمَ وعلبةَ الألوانِ, ثمَّ تساءلَ في نفسهِ: ماذا أرسمُ? غابةً خضراءَ? أمْ صحراءَ? أمْ بساتينَ غنّاءَ? أمْ نهرًا? أمْ بحرًا? أمْ زهرًا?

خطَّ أحمدُ, دونَ أنْ يقصدَ, خُطوطًا متموّجةً: أرسمُ بحرًا أزرقَ اللونِ, تسبحُ فيه أسماكٌ, وتشُقهُ سفينةٌ!

ولمّا أتمَّ التلوينَ, باغتهُ رُبَّانُ السفينةِ بندائهِ:

- أحمدُ, أحمدَُ ألا تسمعُني, أيها الرسامُ الماهرُ?

لمْ يدرِ ماذا يفعلُ, لكنهُ تمالكَ نفسهُ, ثمَّ ردَّ مُتلعثِما:

- ماذا.. تريدُ.. أيُّها.. الرُّبانُ?!

أجابهُ بابتسامةٍ عريضةٍ:

- اهدأْ, يا طفلي, هلْ تريدُ أنْ تسافرَ إلى الأردنِ?

- أحقًّا ما تقولُ, يا سيِّدي?

وما كادَ الرُّبانُ يُجيبهُ, حتّى أردفَ أحمدُ:

- شكرًا جزيلاً!.. هيَّا, خُذْني مَعَكَ..!

مدَّ الربانُ يديهِ, وجذبَ أحْمدَ إلى السفينةِ, التي تابعتْ سيرَها في البحرِ:

- قُلْ لي: أينَ تقعُ الأردنُ, قريبًا أمْ بعيدًا عن المغربِ?

أنا أسمعُ بها فقطّ, وأشاهدُ برامجَها على شاشةِ التلفازِ!

ضحكَ الرُّبانُ قائلاً:

- حسنًا إنَّ الأردنَ تقعُ بينَ فلسطينَ غرْبًا, والعراقِ شرقًا وسوريةَ شمالاً, والسَّعوديةَ جنوبًا, وتُطلُّ على خليج العقبةِ.

يا لَمَوْقِعِها يا بُنَيَّ!.. هذا القَلْبُ يَنبُضُ مِنْ مِساحَتِها, لَمْ تَحُلْ دونَ أنْ يَشْتُغِلَ شعبُها النشيطُ بالزراعةِ والصِّناعةِ.

- هذا بلدٌ قويٌّ, شعبهُ حوّلَ الصحراءَ إلى جنّةٍ خضراءَ!.. ألاَ حدّثْتني عنْ مُنتجاتهِ الزراعيةِ والصناعيةِ?

- يا لكَ من طفلٍ ذكيٍّ, تريدُ أنْ تعرفَ كلَّ شيءٍ!.. إنَّ أكثرَ مُنتجاتِ هذا البلدِ من القمحِ والشعيرِ والذرةِ, ثمَّ الخُضرِ والفاكهةِ. وفي بواديهِ, يهْتمُّونَ بتربيةِ الماشيَّةِ منْها الغَنَمُ والماعزُ والإبلُ والبَقرُ والخيْلُ. وفي مُدُنهِ يهتمُّونَ بصناعةِ النسيجِ, والزيوتِ والسَّمْنِ النباتيِّ, والصَّابونِ والملابسِ التَّقليديةِ, كالعباءاتِ والعقالِ والخِيامِ والفخَّارِ. وتزْخرُ أرضهُ الغنيَّةُ بمواردَ طبيعيَّةٍ, كالبوتاسِ والفوسْفاتِ. ولكَ أنْ تفخرَ كثيرًا كثيرًا..

- بماذا أفخرُ, يا سيدي?!

- لكَ أنْ تفخرَ بالأردنِ, التي تحتلُّ الرُّتْبةَ الثالثةَ بالعالمِ في تصْديرِ الفوسْفاتِ!

- إذنْ ستُصبحُ الأردنُ مقصد كلِّ الأممِ والدوَلِ, القريبةِ مِنْها والنَّائِيَةِ على السَّواء..!

هَزَّ الربانُ رأسَهُ:

- لا تنْسَ أنَّ الكنعانيِّينَ والمِصريينَ والبابليينَ والفُرْسَ والرَّومانَ والبيزنْطيينَ, تنافَسوا على هذا البلدِ, لِمَوْقِعِهِ بَيْنَ البَحْرِ المُتوسِّطِ, وشبهِ الجزيرةِ العربيةِ. كانتْ أرضهُ مهدًا لأنبياءِ العهدِ القديمِ, مثلَ النبيِّ يوشعَ وشُعيبٍ.. وفي سنة 1516 نشرَ التُّرْكُ حُكمهُمْ في دولٍ عربيةٍ, فحاربَهُمْ حسينُ بن عليٍّ من مكةَ إلى حلبَ سنةَ 1916. وفي عامِ 1921 حاربَهُمُ عبدُ الله بنُ الحُسَيْنِ منَ الحِجازِ إلى شرقِ الأردنِ وأسَّسَ الإمارةَ.

- الإمارةَ?.. أيّةَ إمارةٍ تَعْني, يا سيدي?

- أعْني (المملكةَ الأردنيَّةَ الهاشميَّةَ) التي لمْ تستقلَّ إلاَّ سنةَ 1949.. أنظرْ, يا أحمدُ.. ها هيَ الإمارةُ, عفْوًا, أقصدُ الأردنَ التي تريدُ أنْ تراها بملءِ عينيكَ..!

نظرَ أحمدُ بعيدًا, فلَمَحَ طفْلاً في سنِّهِ, يشيرُ بيديهِ:

- عمّي, عمّي! مَنْ ذاك الطفلُ الذي يَدْعوني إليهِ?!

شَخَصَ الربانُ في الطفلِ البعيدِ:

- إنَّهُ صديقُكَ الجديدُ (عليُّ) الذي سيتجوَّلُ بكَ في مدنِ وقرى وصحراءَ الأردنِ!.. هيا, انزِلْ بسرعةٍ.

فتحَ عليٌّ ذراعيْهِ, يحتضِنُ صديقهُ المغربيَّ:

- أهْلاً وسَهْلاًً, مرحبًا بكَ! مِنْ أينَ نبدأ الجولةَ!

- أريدُ.. أنْ.. أزورَ مدينةَ.. (جَرَش) التي كثيرًا ما قرأتُ عنها في الجرائد والمَجلاتِ..!

- كما تُريدُ يا أحمَدُ!.. إنَّ (جَرَشَ) تبعدُ عَنْ عَمَّانَ بـ 45 كيلومترًا. تستقبلُ كلَّ سنةٍ سُيَّاحًا مِنْ كلِّ الدولِ وفرقًا موسيقيةً. ها نحنُ بلغنًا هذهِ المدينةَ التاريخيةَ, التي تُعتبرُ مِنْ أجملِ ما بقيَ من المدنِ الإغريقيَّةِ الرومانيةِ.

- ما السِّرُّ في بقائِها إلى عصْرِنا الحاضِرِ, يا صديقي?

ردَّ عليٌّ على الفورِ:

- يعودُ الفضلُ في بقائِها إلى الفاتِحينَ, منهمُ (الإِسكَنْدَرُ) و(تولْمِي فيلادَ لفيوس) و(بومبي).. أُنْظُرْ إلى هذا القَوْسِ..!

- إنَّهُ كبيرٌ جدَّا جدًّا.. ما اسمُهُ?

- اسمُهُ (قَوْس النصْرِ) أوْ (بوابةُ عمَّانَ) شُيِّدَ عامَ 129م.

ـ إنهُ عالٍ جدًّا جدًّا!

- يرتفعُ بعشرةَ أمْتارٍ وثمانينَ سنتيمترًا, ويصلُ عَرْضُهُ خَمْسَةَ أمْتارٍ وأربعينَ سنتيمتْرًا. وعلى جانبيهِ بوَّابتانِ أخْريانِ, في كُلِّ منهُما تمثالُ آلهةِ المدينةِ.

- وأيْنَ المنازلُ والدَّكاكينُ والمَدارسُ?

- لَقَدْ دَمَّرَتِ الزَّلازِلُ والبراكينُ الكثيرَ مِنْ هذهِ المباني في القَرْنِ الثامِنِ. ومِمَّا زادَ الطِّينَ بلةً - كما يُقالُ - أنّ (بادْوينَ) الثاني قائدُ الصليبيينَ, جَعَلَ معابدَها ثكَناتٍ عسْكَريّةً. ولمْ يبْقَ مِنْها إلاّ (شارِعُ الأعْمِدَةِ) المُبلَّطُ, و(سَبيلُ الحورياتِ).

كانت الفَتياتُ الصغيراتُ, دونَ الثَّامنةَ عشْرَةَ, يأتينَها حامِلاتٍ الجَرَّاتِ على أكْتافِهِنَّ, ليَسْقينَ مِنْ (مَعْبْدِ الماءِ). ثمَّ (الكاتدرائيةُ) ومعبدُ (أرتيمْس) إلهِ الصَّيْدِ, ومدرَّجُ الْمصارعينَ والحيواناتِ المفترسةِ, وبركٌ وحمَّاماتُ الرِّياضيينَ.

- لمْ أكنْ أعلمُ أنَّ الأردنَ تزْخرُ بهذهِ الآثارِ..!

- إِنَّكَ لمْ تشاهد إلاّ القليلَ القليلَ!

- هلاّ تطلِعُني على غيْرِها?

- طَبْعًا, تعالَ نذهبْ إلى محافظةِ (البلقاءِ) توجَدُ فيها آثارْ. هذهِ (مقبرةٌ) بناها الرومانُ في القرنيْنِ الثالثِ, والرابِعِ الميلاديين. وهذهِ (مقبرةٌ تُلَيْلاتِ الغَسولِ) تُظْهِرُ أوَّلَ مُجْتمعٍ حضاريٍّ. وهذا تلُّ (ديرِ علا) يضمُّ قِطعًا فخاريةً وتماثيلَ صَلْصاليةً وكتاباتٍ آراميةً.

نظرَ أحمدُ إلى بعضِ الأبنيةِ, فسألَ عليًّا:

ـ لِمنْ تعودُ هذهِ الأضرحةُ والمقاماتُ الدينِيةُ?

- هذا مقامُ النبيِّ (شُعَيْب) الذي بَعَثَهُ اللهُ إلى أهالي (مَدْيَنَ) و(الأيْكَةِ) وهُناكَ مقاماتٌ غَيْرُها.. لنَذْهَبْ إلى (البَتْراءِ).. إنَّها عاصمةُ (الأنباطِ) العربِ, الذينَ سَكَنوا المِنْطقةَ. تقعُ هذه المدينةُ الوَرْديَّةُ - كما نَصِفُها في أرْدُننا - جنوبَ عَمَّانَ بحواليْ 262 كيلومتْرًا. وتحتوي على كُنوزٍ قلَّ نظيرُها, كاللَّوحاتِ الجِداريةِ الفُسَيْفسائيةِ.

- لَمْ يبْقَ إلاّ أنْ نزورَ الصَّحْراءَ..!

- حسنًا, هيَّا معي حالاً!

- يا لشَساعةِ هذهِ الصحراءِ!

ـ إنَّها تَشْتَمِلُ على آثارٍ ومراكِزِ العِنايةِ بالحَيواناتِ كالْمَها العَرَبيِّ والأنعامِ والغِزْلانِ والجمالِ. كما توجدُ فيها واحاتٌ غنَّاءُ, تأتيها الطيورُ مِنْ كُلِّ الدُّوَلِ. وفي واحَةِ (الأزْرَقِ) التي تَبْعُدُ عَنْ عَمَّان بمائةٍ وعِشْرينَ كيلومتْرًا, نَخيلٌ وشَجرٌ وزَيْتونٌ ورُمَّانٌ.

ومِنَ القصورِ الفخمةِ, قصرُ (عَمْرةَ) يَبْعدُ عَنْ (عمَّانَ) بِتسْعينَ كيلومتْرًا. بُنيَ في عَهْدِ الخليفةِ الأمَوي (الوليدِ بْنِ عَبْدِ الملكِ) عام 711 ميلاديةً. يَشْتَمِلُ على غُرَفٍ وحمَّامٍ, وتُزَيِّنُ جدْرانَهُ رسومٌ وزَخارفُ ونُقوشٌ, ومناظِرُ للمُلوكِ الذينَ هزَمَهُمُ العَرَبُ, مِنْهمْ ملكُ الحَبَشَةِ (النجاشي) و(كِسْرى) مَلِكُ الفُرْسِ, و(قَيْصرُ) ملكُ الرُّومِ, و(رُودْريكُ) ملِكُ إسْبانيا..!

- قُلْ لي: أيْنَ تَقْضي أوقاتَكَ الفارِغَةَ?

أطْرَقَ عَلِيٌّ يُفَكّرُ لَحْظَةً, ثُمَّ قالَ:

- هَلْ تظُنُّني أُزْجي أوقاتي في اللَّهْو واللّعِبِ?!.. لا لَقَدْ شَيَّدَ بلدي جمْعِيّاتٍ ونواديَ, تتوفَّرُ على الوسائِلِ الحديثةِ, كالتِّلفازِ والمسَجلةِ والقَمَرِ الصناعيِّ, لا يستفيدُ مِنْها الصِّغارُ فَقَطُّ, وإنّما الكِبارُ أيضًا.. تُلَقِّنُنا الثقافة والمعرِفةَ, والعلومَ والأخبارَ. وفي المدرسةِ يُمْكنُني أنْ أتعلَّمَ مجالاتٍ مختلفةَ, صِناعيَّةَ, تجاريَّةً, فِلاحِيَّةً طِبِّيَّةً..

في هذهِ اللّحْظَةِ, لَقِيَ أحْمدُ وعَليُّ الرُّبَّانَ قَلِقًا:

- لقدْ بحثْتُ عنكَ طويلاً, ألاَ تُريدُ أنْ تعودََ?

- كَمْ أودُّ أنْ أبْقى في الأردُنِ, لكِنْ, أخْشى أنْ يَقْلَقَ عليَّ والِدايَ, فأنا لمْ أُخبِرهُما برِحْلتي..

وقبلَ أنْ يُغادرَ أحمدُ الأردنَ, أقْبَلَ عَلى عليٍّ يُعانقُهُ:

- شُكْرًا جزيلاًَ عنايَتِكَ الفائِقةِ بي, وكَرَمِكَ الحاتِمي!.. أنْتَ في المَشْرِقِ وأنا في المَغْرِبِ, ومَهْما تَتَباعَد المَسافَةُ بَيْنَنا فَنَحْنُ أخوان..!

 


 

العربي بن جلون

 




أحد أعمدة جرش ومشهد من البتراء





متعة القراءة في مركز زها للأطفال





أمام خزانة البتراء





أحد مساجد مدينة عمان





مشهد من قلب العاصمة الأردنية





البحر الميت كما يبدو عند الساحل الأردني





عازف الربابة في البادية الأردنية