أولُ المطر

أولُ المطر

رسوم: ضياء الدين

انقطعت الكهرباء فجأة, وخيم سكون على أرجاء المنزل وطرقات القرية مما سمحَ للأصوات, مهما انخفضت, بأن تصل إلى الأسماع.

ـ شْ شْ شْ......

ما الذي يُرشُّ خارجاً? ما الذي يرش خارجاً?

تساءل الفتى مصطفى, ثم فتح نافذة غرفته المطلة على الشارع, ومد ذراعه فاتحاً كفه تاركاً إياها لحظاتٍ, ثم ما لبثَ أن سحبَها إلى الداخلِ وقرّبَها إلى شفتيه, فإذا هي... قطرات ماءٍ. فعلاً قطراتُ ماء!

هتف وهو يقفز سعيداً:

ـ ليلى.. سلمى.. إنها تمطر...إنها تمطر.. تُم..ط..ر.. تُم..ط..ر..

هوبْ... وبسرعة, جاءت الفتاتان إلى أخيهما, وسارع الكل إلى شرفة المطبخ يرقبون (أول شتوة), أو (بداية المطر لهذا العام) حيث كلُّ شيءٍ يعبقُ برائحةِ الرطوبةِ المنعشةِ التي لا تشبهها أيةُ رائحة أخرى.

عَلتِ ابتساماتٌ الوجوهَ الصغيرةَ, ولمعتِ العيونُ السوداءُ بفرحٍ غريب, وكاد الأولاد أن تُفَجِّرَ فيهم الدهشةُ قصائدَ طفولية حلوةً.

قالت ليلى:

ـ طوالَ النهارِ راقبتُ الغيمَ ودعوتُ اللهَ أن يرسلَ المطرَ.

وفركت سلمى راحتيها الصغيرتين:

ـ أتساءل أين معطفي الأزرق.

أما مصطفى, فقد أخرج رأسه من نافذته المفتوحة على مصراعيها وتنشق الهواءَ ملء رئتيه, وقال منتعشاً:

ـ الله!

وتابعَ وهو يعود فيتنشق من جديد:

ـ يا لها من رائحة أليفة رغم أننا لا نحظى بها إلا مرة واحدة كل عام..أول مرة.

تنشقت الفتاتان رائحةَ (الشتوة الأولى) وملأتا رآتهما بها, ثم التفتت ليلى إلى زاوية الرصيف المقابل, وقالت:

ـ آه! انظرا..بائع الخضار لا يحب (الشتوة الأولى)..

راح الأولاد يرقبون البائع الذي كان قد فرش صناديق الخضار والفاكهة طوال الصيف مقابلاً للبيت حيث راح يقرب صناديق الدراقِ والإجاصِ تحت سقف التوتياء, ويرفع صناديق الخيار إلى جانب البندورة والباذنجان الأسود, ويبحث عن قماش الخيش ـ الذي يغطي به عادة الخضر التي يبيعها ـ اتقاء للشمس الحارة صيفاً, وفرَدَهُ فوق البضاعة هذه المرة اتقاء المطر.

ولما مر عجوز بالقرب منه مسرعاً, حياه:

ـ ايه يا معلم سامي.. انتهى الموسم.

وبدل أن يحزن بائعُ الخضارِ, رفع ذراعيه إلى فوق نحو السماء بالطبع, ليشكر الله سبحانه تعالى على عطاياه. كذلك نظر إلى السماء, ونادى بأعلى صوته:

ـ هاتْ يا كريم.

ووقف تحت المطر يدور رافعاً ذراعيه, سعيداً, بينما هرعت أمُّه العجوزُ مستعجلة ترمي على كتفيه المبللتين معطفاً أسود قديما وهي تقول بصوتها المتهدج:

ـ قلت لك منذ الصباح خذ معطفك معكَ.. ألا تعرف, وقد صار عمرك أربعين عاماً, أن ذَنَبَ (ذيل) أيلول (سبتمبر) مبلول (مبتل)?

وضحكَ الأطفال طويلاً, فقد كانوا يسمعون

هذا المثل الشعبي للمرة الأولى.

نعم... كانوا يسمعونه للمرة الأولى!

 


 

إيمان بقاعي