قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

رسوم: ممدوح طلعت

(تيم برنز لي) الإنترنت سر شلال المعلومات

(ضع كل شيء في مكانه الصحيح...تعثر عليه بسهولة).

هكذا ردد الأب (برنز) لابنه الصغير (تيم) في أول نصيحة سمعها في حياته, فالأب (برنز لي) معروف بدقته في كل شيء...لدرجة أن الناس تضبط ساعاتها على ذهابه إلى العمل, وعودته منه.

ولم يكن الصغير (تيم) في حاجة إلى هذه النصيحة, لذا, فإن الأب لم يقلها إلا مرة واحدة فقط, فقد كان كل شيء في البيت مرتبا بدقة متناهية.

لم يكن الأب (برنز) يعرف ما يسمّيه الآخرون بالمصادفة, فكل شيء مرسوم كي يحدث في توقيته بالضبط, وبالتالي, فإنه لا يوجد خطأ واحد في حياته العملية.

واعتاد الصغير أن يرقب أباه, وهو يمارس عمله, وذات يوم سمع أباه يردد قائلا لأمه:

- هل تذكرين, كيف كان ولدنا بالغ الشقاوة وهو صغير?

راح يذكر زوجته بما كان يفعله (تيم), وهو دون الخامسة, يقلب الأشياء, ويغير أماكنها, ولم يكن الأب منزعجا لما يحدث, فهو يرى أن لكل سن متطلباتها, خاصة لدى الأطفال.

وعندما دخل الطفل (تيم) مكتبة أبيه الضخمة, لأول مرة, أصابته الدهشة, فهي مكتبة مرتبة بشكل هندسي, يمكن من خلاله العثور على أي كتاب في دقائق معدودة.

وكانت أول جملة رددها الصغير هي:

- هذه غابة من الكتب!!

لكن, بعد أن مرت الشهور, سأل الابن أباه:

- كيف يمكن ترتيب كل هذه الكتب, دون خطأ واحد?

أشار الأب إلى شيء ضخم, أشبه بالدولاب متوسط الحجم, وقال:

- بفضل هذا الحاسوب...إنه ينظم كل شيء...

وكان التساؤل: كل شيء...?

نعم, كان الحاسوب في تلك الفترة التي بلغ فيها الطفل البريطاني (تيم برنز لي) العاشرة, أي عام 1965, عبارة عن جهاز ضخم, أقرب إلى الدولاب (الخزانة الضخمة), وذلك قبل أن ينجح العلماء في تصغيره لدرجة أن أصبح الآن مثل حجم كف طفل صغير.

ومنذ ذلك اليوم, تولدت صداقة بين (تيم), والحاسوب, كان الطفل كلما كبر, قام العلماء باختراع أجيال جديدة أصغر حجمًا من الحاسوب, لدرجة أن (تيم) ردد يومًا:

- عجبا لك يا صديقي...كلما كبرت أنا...صرت أنت صغيرا.

عرفت هذه الصداقة لغة حميمة بين الاثنين, وصار همّ (تيم) أن يقوم بتخزين كل ما في مكتبة أبيه من معلومات, وكان كلما صغرت الأجهزة, اكتسبت كفاءة أكبر في تخزين المعلومات.

وعندما تخرج (تيم) في جامعة أكسفورد عام 1976, كان قد نجح في تخزين مكتبة أبيه, خاصة كل ما يرد إليه من معلومات جديدة.

وردد (تيم) يوما لصديقه (شون):

- لماذا لا نتبادل المعلومات, خذ ما لديّ من معلومات, ضعه في حاسوبك.

وكانت أول عملية تبادل معلومات, تتم من خلال أجهزة (الحاسوب) في التاريخ, وبدأت دائرة تبادل المعلومات تتسع بين الأصدقاء الذين عشقوا علم الحاسوب منذ الصغر, وذاعت هذه القصة في مدينة لندن, وسط الجامعات, والمؤسسات الاقتصادية والعلمية.

وتبنت الجامعة الفكرة, بهدف تبادل المعلومات.

ولم يكن (تيم) يغادر معمله كثيرًا, وهو يقوم بتغذية الكمبيوتر (الحاسوب) بالمزيد من المعلومات, والعمل على زيادة المشاركين في دائرته.

ولما اتسعت هذه الدائرة, ووصلت إلى بلدان عدة على رأسها الولايات المتحدة, اقترح (تيم) تسميتها بـ(شبكة المعلومات).

وفي عام 1984, توصل (تيم) إلى طريقة علمية, بالغة التعقيد, يتم فيها ترتيب المعلومات وتخزينها مثلما يحدث في مخ الإنسان.

وفي إحدى المحاضرات, قال (تيم):

- خلق الله المخ البشري, منظما, كأنما هناك لكل معلومة منطقة خاصة بها.

وبدأ في عمل المواقع على الشبكة الجديدة, للمعلومات, التي بدأت تنتشر داخل الجامعات والمؤسسات, والتي عرفت باسم (الإنترنت).

وطوّر (تيم) المواقع, بحيث يسهل العثور عليها, وإرسالها إلى المشتركين في الشبكة.

كان كل شيء يتحرك بسرعة, لدرجة أن أحد الأصدقاء, صاح مندهشًا:

- انظروا, المعلومات تتدفق في الشبكة أقوى وأسرع من تساقط المياه في شلالات نياجرا.

وصار, عن طريق هذا التطور, في إمكان الناس أن يتصل بعضهم ببعض.

وفي عام 1989, أعلن (تيم برنز لي) عن ابتكار مشروع الروابط الذي يُمكن الأشخاص من تبادل المعلومات في مناطق مختلفة من العالم.

وصار العالم بذلك أصغر من ذي قبل, وكأنه صار عالمًا من (الترانزستور) مثلما حدث للحاسوب نفسه. كلما صار صغيرًا, زادت كفاءته.

وتنافس العلماء في ابتكار طرق لتسهيل انسياب المعلومات بين المشتركين في الشبكة, وتمكن عالم هندي يعيش في أمريكا من اختراع أول بريد إلكتروني, فصار في إمكان كل إنسان يتعامل مع الشبكة أن يكون له عنوان إلكتروني يصل البريد إليه بعد ثوان من إرساله.

وتطوّر العالم...

وصارت الكرة الأرضية أشبه بقرية صغيرة للغاية, في عالم تسيطر عليه المعلومات.

وفي أحد المؤتمرات العلمية, قال (تيم) مجدّدًا:

- سيداتي, سادتي, اسمحوا لي أن أقدم لكم آخر ابتكاراتي (شبكة المعلومات الخارقة السرعة).

ومنذ ذلك اليوم, لم تعد حركة انتقال المعلومات بطيئة, تستغرق دقائق, بل هي تستغرق كسور الثواني.

وفي أوائل عام 2004, حصل (تيم) على لقب (فارس), من ملكة بريطانيا, رغم أنه لم يكن قد تجاوز الثامنة والأربعين من العمر.

وفي الحفل, لاحظ الناس أنه تعجل الخروج من المكان, سأله ابنه الذي كان برفقته:

- أبي...هل انتهى دورك الآن...?

ابتسم الأب وقال:

- لا....بل لم يبدأ بعد...

سأل الابن: هل هناك جديد...?

وتوجه الاثنان نحو معمل الأب, وفي السيارة قال (تيم) لولده:

- في نهاية هذا العام 2004, سأقدم للناس ما يسمى بالصفحات الذكية.

وأمام دهشة الصغير, راح الأب يشرح بعض التفاصيل عن الصفحات الذكية التي سيعرفها الناس قريبًا على شبكة المعلومات, بحيث يمكن للمعلومات أن تلائم نفسها مع احتياجات المستخدم.

 


 

محمود قاسم