مُنْطادُ الْجَدِّ

مُنْطادُ الْجَدِّ

جُزُرُ القُمُرِ

عدسة: فهد الكوح

قبلَ أنْ يموتَ الجدُّ, قالَ لحفيديْهِ الصغيريْنِ كريمٍ وكريمةٍ:

- حافِظا على المُنطادِ, وإلاّ قَرَضَتْهُ الفئرانُ الشَّرهةُ.

كانا في كُلّ حين يفْتحانِ الصندوقَ الحديديِّ, ليطْمئنَّا على المُنطادِ الكبير.

وفي الليل, عنْدما يُطفئان النورَ, ويرْقُدان على سريرَيْهما يحْلُمان أحلاما جميلةً: يَعْبرانِ النَّهْرَ, يتسَلَّقانِ الجَبَلَ يصيدانِ الحمامَ واليمامَ والحجلَ والأرانبَ في الغابةِ, يسْبَحانِ مع الدَّلافينِ في البحرِ, يحلَّقانِ في السَّماءِ, يركبانِ السَّحابةَ.

يَحْلُمانِ ويَحلمانِ, إلى أنْ يستَيْقظا صباحا باكرًا.

يومًا ما, خطرَ ببالِ كريمٍ سُؤالٌ:

- لماذا نُحافظُ على هذا المُنْطادِ, إذا لمْ نستعملهُ أو نستفِدْ منهُ? هلْ سَيَخْلُدُ في الصُّندوقِ الحديدي?

أخْبَرَ كريمةَ فأجابَتْهُ:

- ماذا تُريدُ أنْ تقولَ, يا أخي? إيَّاكَ...

قاطعَها باسمًا:

- ألاتعْلمينَ أنَّني أقودُ المنْطادَ? وأنَّ جدّي كانَ يعْتمدُ عليَّ كثيرًا?

فكَّرْتْ كريمَةُ قليلاً, ثم قالتْ:

- حقَّا ما تقولُ!.. لكِنْ, أخْشى أنْ..

قاطعها ثانيةً:

- لا تخافي, وهيَّا نُجِرِّبْهُ!

بَسَطا المنْطادَ على الأرْضِ. رسما عليهِ صورةَ جدّهمَا وأحاطاها بالوُرودِ والزُّهورِ والطُّيور. لوَّنا هذه الرُّسوم بالألوانِ الجذابةِ, ثمَّ أحْضرَا كيرًا ليَنْفُخا الكيسَ.

في تِلْكَ اللّحْظةِ, حَرَّكَتْهُ الريحُ قليلاً, فأخذ يعْلو عَنِ الأرْضِ شيئا فشيئا. ولمْ يستطعِ الطّفلان أنْ يمسِكا بالمرساةِ, أو يَجْذِبا حبْلَ الدَّلالَةِ.

قَفَزا بسُرْعةٍ إلى المنْطادِ, بَيْنَما الريحُ تَدْفَعُهُ وتَرْفَعُهُ إلى أعْلى أعْلى.

وكُلَّما عَلاَ, ظهرَ كلُّ شيءٍ لهُما صغيرًا جدًا جدًا: الجبالُ, السُّهولُ, الأنْهارُ, الأشْجارُ, المَنازلُ, المعامِلُ, المدارسُ, الملاعِبُ, السياراتُ, الشاحِناتُ, الحافلاتُ, القاطراتُ.

والرجالُ والنساءُ والأطفالُ, الكبارُ والصغارُ, تَجَمْهَروا لِيُشاهدوا الطّفْليْنِ, وهُما يمْتطيان المنْطادَ.

كانوا يَشْخصون بأعْيُنِهِمْ في دهْشةٍ. يستغربونَ من هذهِ المركبةِ التي تتحدى الريحَ القويَّةَ, والسَّحابَةَ الحُبْلى بالمطرِ:

- احذر, يا كريمُ, المنْطاد يسيرُ في خطِّ الطائرةِ!

قالتْ كريمةُ, فجَرَّ أخوها حبلَ الدلالةِ ليتفادى الخطَّ.

سارَ بالمنطادِ مِنْ هُنا إلى هُناك, مِنْ هُنا إلى هُناكَ. يا لَها منْ مناظرَ خلابةٍ, لَمْ يَرَياها من قَبلُ!

وعِنْدما حلَّقا في سماءِ (جزر القُمُرِ) نظرا إلى أسفَلْ فشاهدا حَلَبَةً فارِغةً, حَوْلَها الأطْفالُ يُغَنُّونَ ويَرْقصون في سُرورٍ:

- إنّهمْ يَنْتظرونَنا

قالَ كريمٌ فرِحا, فأجابَتْهُ كريمَةُ:

- إذنْ, لِنَنْزلْ بالمنطادِ في الحلبةِ!

وكمْ كانتْ فرْحةُ الطّفليْنِ كبيرةً, وهُما يتَقبَّلانِ التَّحياتِ والتَّهانيَ والهَدايا: الوُرود والزُّهور المُلوَّنة, العَبِقَة بأريجِها الذَّكِيِّ!

حيَّا الطّفْلُ القُمُريُّ صديقَيْهِ المَغْربيَّيْنِ كريمةَ وكريمًا:

- أهلاً وسهلاً بكُما في أرْخبيلِنَا!

تساءَلَتْ كريمَةُ:

- ماذا تَقْصِدُ بالأرْخبيلِ, يا أخي?

وقَبْلَ أنْ يَرُدَّ عَلْيْها, نطقَتْ ياسمينَةُ الطفْلَةُ القُمُريَّةُ:

- الأرْخبيل مجموعَةٌ من الجُزُرِ بيْنَ مدَغَشقَرَ والسّاحلِ الإفريقيِّ.

تتألَّفُ مِنْ أربعُ جُزُرٍ, هيَ: هِنْزوان أو إنجوان مساحتُها 424 كيلو مترًا مربعًا. والقَمرُ الكُبْرى أو إنجاريجة طولها 70 كيلومتْرًا وعَرْضُها 34 كيلومترًا. ومايوتَه أو ماهوري, مساحَتُها 374 كيلومتْرًا مربعًا. وموالي أو مهيلي الخَضْراءُ, مساحَتُها 290 كيلومتْرًا مربعًا. كما تتألَّفُ منْ جُزُرٍ مَرْجانيَّة. والمساحَةُ الكُليَّةُ لوطَني 2236 كيلومتْرًا مُربَعًا.

سألَ كريمٌ:

- يَظْهرُ لي أنَّ هذه الجُزُرَ حديثَةٌ, فهيَ خاليةٌ منَ القُصورِ والآثارِ, إلا بيوتًا بيْضاءَ من الآجُرِّ البُرْكانيِّ, وطبيعةً جميلةً تكْسوها غاباتٌ كثيفةٌ مِنْ شَجَرٍ, تُعطي أزْهارًا, تُسْتَحْضَرُ منها العطورُ وموادُّ طبِّيَّةٌ للأسْنانِ.

أجابَهُ عبدُالله باسمًا:

- حقَّا ما تَقولُ, يا صديقي, لا توجدُ قُصورٌ فَخْمةٌ وآثارٌ مثلَ مصرَ وسوريةَ والمغْربِ واليمنِ.. لكنَّ تاريخَها يعودُ إلى عهودٍ ماضيةٍ, أي إلى بدايةِ الحياةِ على الأرْضِ, عِندما ثارتِ البراكينُ, فَتَغَيَّرَ وجْه الأرضِ, وظَهرتْ جزرُ القُمُرِ. ولَمْ يفضُلْ مِنْها إلاَّ (بُرْكانُ كارتالا)!

لاحََظَتْ كريمَةُ:

- لكنَّكُما لَمْ تُحدِّثانا عَنْ سُكانِها الأوائلِ!

فكّرَ عبدُالله قليلا, ثُمَّ قالَ:

- يَرْوي أجْدادُنَا أنّهُ بَعْدَ عصرِ النبيِّ سُليمانَ بنِ داوُدَ جاءَها رَجُلانِ عَربيَّانِ مِنْ منطقةِ البحرِ الأحمرِ, ومعَهُما زوجاهُما وأطفالُهُما وخَدمُهُمَا, وبعدهُمْ حَلَّ كثيرونَ مِنْ إفريقيًا وزَنْجبار.

وأَطلقُوا عليْهَا هذا الاسْمَ, لأنَّها تُشبهُ الهِلالَ, وعَلَمُها هلالٌ وأربعةُ نجومٍ على أرضيةٍ خضراءَ, تشيرُ إلى الجُزُرِ الرئيسية.

قاطعهُ كريمٌ:

- ألاَ تعلَمُ, يا صديقيَ, أنَّ الجُغرافيَّ المغربيَّ الشَّهيرَ أبا عبدالله الإدريسي رَسَمَ جُزُر القمرِ على الخريطةِ سنة 1154م? وأنَّ الملاَّحَ أحْمَدَ بْنَ ماجدٍ بيَّنَ الطُّرُقَ التجاريةَ التي تصِلُ هذه الجُزُرَ بموانئ الساحلِ الشرْقيِّ الإفريقيِّ في القَرْنِ الخامِسَ عَشَرَ الميلادي?

ضَحِكَتْ ياسمينةٌ.

- يا لَكُمَا من نبيهَيْنِ!...أنْتُمَا تَعْرِفَانِ الكثيرَ عن بلادِنا!

قال كريمٌ:

- إنّ أرضَكُمْ جنَّةُ فيحاءُ, تَطْفَحُ بأشْجارِ الموْزِ والأناناسِ وجَوْزِ الهِنْد وغيرِها منَ الفواكِهِ.

وقالتْ كريمَةٌ:

- لا تَنْسَ, يا أَخِي, الورودَ والزهورَ التي تُصدَّرُ إلى فَرَنْسَا لِتَسْتَحْضِرَ مِنْهَا العُطورَ.

ضحكَتْ ياسمينةٌ قائلةٌ:

- بَلْ, لا تَنْسَيا أنَّ في بَحْرِنا جَنَّةً, تُدِرُّ عَلَيْنا مَحارًا وسَمَكًا غاليًا جدّا جدًا.

وقَبْلَ أنْ يَرْكَبا المنطادَ ليعودا إلى بلادها الحبيبة المغربِ, أهْدَتْهُما ياسمينةٌ باقةً من الزهورِ والورودِ الملوّنَةِ وأهْداهُما عبدُاللهِ سَلَّةً مليةً بالموْزِ والأناناسِ وجَوْزِ الهِنْدِ.

لَقَدْ عادا فَرِحينَ برِحْلَتِهِما الجميلَة, وهُما يَذْكُرانِ جدَّهُما الحنونَ الذي تَرَكَ لَهُما المنْطادِ ليُحافِظا عَلَيْهِ ويَسْتفيدَا مِنْهُ.

 


 

العربي بن جلون

 
















تفضلوا خيرات جزر القمر





فتاة بالزي الشعبي في جزر القمر





في الأعراس يوزع التمر على الحضور





صورة من أحد المساجد خلال صلاة الجمعة