قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

(ابن بطلان)
الاختلاف... واليقين

رسوم: ممدوح طلعت

(كل شيء يتغير في بغداد).

ثم راح (أبو الحسن) ينظر إلى المدينة التي تغيرت تمامًا, خلال السنوات السبع التي غابها عن مسقط رأسه, بدت كلماته في محلها, فهو رجل معروف بدقته في وصف المدن, وهو من عشق السفر بحثًا عن المعرفة, والعلم في أقطار العالم.

حدث ذلك العام 1049 الميلادي, الموافق 441 من الهجرة.

لقد عاد (أبو الحسن بن عبدون بن بطلان) أخيرًا من رحلته التي تنقل خلالها بين مسقط رأسه, ومدينة (حلب) و(أنطاكيا), ومنها إلى (اللاذقية), ثم إلى مصر, حيث أقام في الفسطاط لثلاث سنوات, ثم سافر إلى (القسطنطينية) وعاش هناك ليتلقى المزيد من العلم.

كان أول شيء فعله حين العودة, هو أن توجه إلى مقبرة أستاذه (الحراني), الذي تتلمذ على يديه أستاذه الآخر (ابن الطيب), يقرأ الفاتحة, ويتذكر خيط حياته الطويل.

تذكر أباه, وأمه التي ولدته في العام 966 الميلادي, وكيف تعلم في (كُتاب) أحد الأحياء الصغيرة في المدينة. حفظ القرآن الكريم, ولعب مع الصغار في الحارات, إلى أن شاهد رجلاً ذات يوم يقع فجأة أمام عينه.

يومها تساءل الصغير: لماذا يموت الناس فجأة...?

وقرر أن يحاول العثور على إجابة, وعرف أن الموت من عند الله, لكن له سببه الذي يختلف من إنسان لآخر, وراح يردد ما سمعه.

- تعددت الأسباب, والموت واحد, ومن الأسباب المرض, ولكل مرض يحاول الطب أن يجد علاجًا.

ومنذ ذلك اليوم, وهب نفسه للبحث عن معرفة علوم الطب.

وقرر أن يهب حياته للطب, فدرسه على يديّ أستاذه (إبراهيم بن زهرون الحراني) أشهر أطباء عصره, فلما مات عام 980, استكمل الدراسة على يدي أستاذ آخر هو (عبدالله بن الطيب).

وعندما صار أكبر سنا, بدأ (ابن بطلان) في التنقل بين البلدان, بحثا عن كتب الطب ومحاولا العثور على أكثر من وسيلة لعلاج الأمراض المستعصية.

وفي أثناء السفر, اكتشف أن الناس الذين تضطرهم ظروفهم إلى تناول أنواع محددة من الغذاء, يصابون بأمراض سوء التغذية, خاصة الرهبان الذين يعيشون في الصحراء, وقال يوما لراهب في أحد الأديرة:

- الطعام بالفعل فيه الغذاء...والدواء.

ونصح الرهبان بأن يقوموا بزراعة أنواع مختلفة من النباتات في الأديرة التي يعيشون فيها.

وفي مصر نشر كتابه عن سوء التغذية, وكتابًا ثانيًا بعنوان (تقويم الصحة), كما كتب مقالات مختصرة عن (كيفية دخول الغذاء في البدن وهضمه, وخروج فضلاته).

وفي مصر تعرف على الطبيب المصري (ابن رضوان).

وتولدت صداقة إنسانية عميقة بين العالمين, لكن, ذات يوم..فوجئ (ابن بطلان) بصديقه يهاجمه بضراوة, فيما يخص أحد مؤلفاته الجديدة بعنوان (مقالة في مداواة صبي عُرضت له حصاه).

وقامت مناقشة حامية بين الصديقين, راح كل منهما يرمي الآخر بالجهل, وأن العلم الحقيقي هو الذي يعرفه.

ومن يومها, والمعارك الكلامية العلمية حامية بين الصديقين, كل منهما لديه حججه, يرد بها على الآخر, ويرددها. وبدا الشقاق أشبه بصراع الديكة, ما إن يلتقيا, حتى يتجادلا, وكان الجدال أقرب إلى الصراع, منه إلى أي شيء آخر.

وأخيرا, حان موعد رحيل (ابن بطلان) عن مصر, وجاء الأصدقاء يودعونه, إلا أن صديقه, ابن الطيب, وقف على مسافة قريبة, يحاول أن يحبس دموعه, ويقول:

- هل لي أن طلب منك عدم الرحيل, فالحياة دون معنى, لو توقفنا عن الجدل, ابق من فضلك.

قال: وأنا أيضا, يا صديقي, لم أشعر بقيمة صداقتنا واختلافنا معا, إلا وأنا على وشك الرحيل.

أحسّ الاثنان بأن كلا منهما يهب الآخر الحماس للمعرفة, وان اختلاف وجهات النظر منحت كلا منهما الرغبة في التعلم أكثر, والحصول على المعلومة الأصح, أو اليقين.

وتعانق الصديقان اللدودان, وقررا استكمال ما بينهما من خلاف, حين يصل (ابن بطلان) إلى مدينته.

الآن هاهو يعود إلى مدينته, ويقف أمام مقبرتي أستاذيه, فجأة, تذكر صديقه اللدود, وقرر أن يكتب له رسالة طويلة يصف له فيها مشاهداته في البلاد التي زارها.

وكتب خطابًا إلى صديقه.

وبعد شهور جاء الرد, مليئًا بالعديد من وجهات النظر المختلفة, واكتشف (ابن بطلان) أن صديقه قد سافر إلى أماكن كثيرة.

وبدأت المجادلات الساخنة بين الاثنين عبر الرسائل.

ولم يتوقف (ابن رضوان) عن انتقاد كتب صديقه, ومنها (عمدة الطبيب في معرفة النبات لكل لبيب), وهو الكتاب الذي صار بعد ذلك مرجعًا للأطباء في كل أنحاء العالم, وأيضًا لعلماء النبات.

وجاءت رسالة من (ابن رضوان) إلى صديقه يقول فيها:

- اسمع يا صديقي, هل تصورت بعد هذا العمر الطويل أنك طبيب, لا...صدقني, أنت مجرد متطبب, لأنك لست متعمقًا في الفلسفة, وقد قال الأقدمون إن الطبيب فيلسوف كامل, وإن من لم يقرأ الفلسفة من الأطباء متطبب.

ولم يشعر (ابن بطلان) بالغيظ مما جاء في رسالة صديقه, وكتب إليه أنه قرأ في الفلسفة الكثير, واتهمه بدوره بأنه متفلسف, وأنه يجب أن يكون أكثر تعمقا في العلوم, خاصة الطب.

ومع الرسالة, أرسل له مؤلفه الجديد (كتاب المدخل إلى الطب).

وقد حدث, ووقعت الرسالة بين يدي طبيب مصري ماهر, صديق للصديق (ابن رضوان), فقرأها, وقال:

- هذا الكتاب نادر في تاريخ الطب, إنه كتاب وجهه مؤلفه إلى طبيب مثله, هنا تساءل (ابن رضوان).

- هل كان يجب أن أقرأ في الطب أكثر كي أفهم صديقي?

رد الصديق:

- كما كان يجب على (ابن بطلان) أن يقرأ في الفلسفة, كي يفهمك.

ردد (ابن رضوان): إنه في التسعين من العمر. ولأن العلم لا يعرف العمر, فإن (ابن بطلان) خصص السنوات العشر الأخيرة من عمره ليعمق رؤيته أكثر, بقراءة الفلسفة, وظل الحوار ساخنا بين الصديقين.

 


 

محمود قاسم