المِسَحَّرَاتية

المِسَحَّرَاتية

رسوم: عبدالعال

رمضان كريم, والولد كرم فرحان بالفانوس الجديد, والتفاف الأسرة حول (مائدة) واحدة لتناول الطعام. جو رمضاني دافئ وبهيج. كلمات جديدة تتردد من حوله تبدو له مدهشة: الصيام, مدفع الإفطار, السحور. أما أكثر ما أدهشه فصوت جميل ودقات طبلة: اصحَ يا نايم.. وحد الدايم..سحورك يا صايم.. رمضان كريم. الكلمات المنغَّمة ورنَّات الطبلة تتعاقب وتتكرر بانتظام. أول مرة ينتبه إلى هذا الصوت ويصغي إليه باهتمام. الصوت غريب جذاب, به بُحَّة خفيفة تمس القلب, رنان, نديّ, وفي الوقت ذاته دافئ حنون كصوت أم طيبة تدعو أبناءها للطعام. كان أيضًا صوتًا محيرًا, يصعب أن تتعرفه الأذن من أول مرة وتحدد ما إذا كان لرجل أو امرأة. سأل كرم أمه, أجابته: هذا المسحراتي, بل المسحراتية تنادي لتوقظ النائمين وتنبه الساهرين ليتسحروا. صار كرم مبهورًا بالمسحراتية, تلك التي تطوف بالليل, وليس لها من عمل غير دعوة الناس للسحور. أصرَّ كرم أن توقظه أمه كل ليلة ليسمع نداء المسحراتية, وطبلتها, ويتسحَّر مع الأسرة, مع أنه لا يستطيع أن يصوم إلا جزءا يسيرا من النهار. كانت أمه توقظه في الليل, وبمجرد أن يفتح عينيه يسأل عن المسحراتية. هل جاءت?متى ستجيء? وبعد أن كان يقنع بسماع صوتها ونقرات طبلتها, أصبح يشتاق لرؤيتها ليعرف من تكون صاحبة ذلك الصوت الفريد.

ذات ليلة, انساب صوت المسحراتية العذب في سكون السحر, ودقات الطبلة. راح الصوت يدنو. صار قريبا جدا. الآن يأتي من أمام البيت تمامًا. جرى كرم إلى الشرفة. أخذ يحرك مقبضها بلهفة. نجح في فتحها ولكن الصوت انقطع فجأة. أطل وأخذ يجول بعينيه في الشارع الساكن. لم يكن هناك أحد. عاد الصوت مرة أخرى. كرم يسمعه بوضوح, ولكن أين صاحبته?! لماذا لا يراها?! أغلق كرم الشرفة وغادرها حزينًا.

تكرر ما حدث ليلة بعد ليلة, وفي إحدى الليالي كانت أمه تعد السحور في المطبخ. فتح الشرفة. كان الجو قارس البرودة, وقطرات المطر تندي أرض الشارع. وقف طويلاً. بدأ يرتجف من البرد. افتقدته والدته. لمحته في الشرفة فأسرعت إليه. سألته لماذا يقف في هذا البرد الشديد? أجابها بأنه ينتظر المسحراتية ويريد أن يراها. أخذته من يده وأغلقت الشرفة.

مسحت على شعره مشفقة. قالت له إنه لن يراها, ولا أحد يستطيع أن يراها. سألها دهشًا: لماذا? أجابت: لأنها هكذا. قال وهو ينظر إليها بارتياب: لكنني سمعت صوتها ودقَّات طبلتها! قالت له في ضجر: يمكننا أن نسمع صوتها ولا نراها. وحذرته من فتح الشرفة والوقوف فيها, وتركته في حيرته. كانت أمه تخاف عليه من برد الشتاء فلم تخبره بالحقيقة. لم تكن تدري أنها زادت من رغبته في معرفة حقيقة المسحراتية, وأثارت خياله. من تكون تلك المخلوقة التي تسمعها الآذان ولا تبصرها العيون?! جنية مثل جنيات الحكايات? غير أنها جنية طيبة جدا تحب الناس, أم ساحرة بارعة تستخدم سحرها لفعل الخير وتخفي نفسها كي لا يراها أحد? أحيانا يحدثه إحساسه بأن أمه تخفي عنه الحقيقة. لكنه حاول مرات أن يراها بنفسه فلم ينجح. أهي حقا شيء لا يُرى? صوت فقط كما تقول أمه?

ظل كرم حائرًا حتى جاء يوم صنع كعك العيد, وشهر رمضان يقترب من نهايته. كان كرم في غاية السرور. اجتمعت الجارات بعد الإفطار عند أم كرم, لتصنع لهن الكعك لمهارتها في هذا العمل. وجاء الأولاد والبنات بصحبة الأمهات ليشاهدوا ويستمتعوا. كانت صالة البيت الفسيحة تموج بالمرح والصخب. رائحة العجين الطيبة تفرح قلوب الصغار.

الأيدي تضعه في القوالب, فيصير كعكًا جميل النقوش, بينما أصابع أخرى تزخرف دوائر العجين بالمناقيش, والصغار يتسابقون على رص الكعك في (الصيجان).

بعد منتصف الليل هدأت ضجة الأولاد والبنات, تعبوا وتثاءبوا, ثم تناثروا نيامًا على الحصيرة, والكنبات, وعلى حجور الأمهات. كان كرم على حجر أمه يداعبه النعاس. حملته إلى الحجرة ووضعته في سريره وبسطت عليه الغطاء, وعادت لتكمل العمل. دقائق قليلة وأتاه النداء السحري, ورنات الطبلة المسحورة: اصحَ يا نايم.. وحد الدايم. شده النداء فغادر فراشه نصف نائم نصف يقظان. تسلل نحو باب الشقة. الأم والجارات مازلن منهمكات في عمل الكعك. لم تلحظه عين حين خرج من الباب. الصوت القريب أمسى بعيدًا, لكنه لايزال مسموعًا بوضوح. أطارت النسمات الباردة بقايا النوم من عينيه, وانطلق كالمسحور يتبع الصوت. كان يقوى تارة ويخفت تارة. يسكت لحظات ثم يعاود الصدور. يلتقطه كرم ويظن أنه أمسك به. يسرع إليه ولا يجد شيئا! يرهف السمع من جديد. يحسب أنه على بعد خطوات قليلة من صاحبة الصوت والطبلة المسحورة. يعاوده الأمل, وإذا بالصوت يأتي من مكان آخر.

كأنه يراوغه. سار كرم طويلاً يتبع الصوت المخادع من شارع إلى شارع. دخل حواري وأزقة, وخرج منها بلا شيء. أتعبته مطاردة الصوت دون أن يظفر بصاحبته. تهيأ له في لحظة أنه يأتي من جميع الجهات. تملكه اليأس وقرر العودة للبيت. وجد نفسه وحيدًا في ميدان فسيح. راح يلتفت حوله في استغراب. اكتشف الآن فقط أنه ضلَّ الطريق. كان قلبه يرفرف من الخوف. صار البيت أملاً بعيدًا كالمسحراتية الساحرة وطبلتها المسحورة. انفجر باكيًا, راح ينتحب. من عينيه تنسكب الدموع, وجسمه كله يرتعد. عبر بأذنيه الصوت, كان قريبًا جدًا هذه المرة. لم يصدق أذنيه. لكن يدًا تربت على كتفه كأم حانية. رفع كرم رأسه ورآها من بين دموع. سيدة في مثل عمر أمه, ترتدي جلبابا وطرحة أسودين. ظنها أمه لأول وهلة.

وقعت عيناه على الطبلة. سألها: أنت المسحراتية?! أجابت باسمة: نعم. بدا غير مصدق.

إنها سيدة عادية مثل أمه وأمهات أصدقائه. أخذت تداعبه وارتفع صوتها: اصحَ يا نايم.. وحد الدايم. الصوت هو هو. الصوت نفسه! أعطته الطبلة. أخذ ينقرها, أطربته رناتها, اطمأن قلبه وابتسم, نسي أنه تائه, استمر يدق الطبلة. ارتفعت ضحكاته, سألته عن اسمه فأخبرها, وعن بيته أو أي علامة تدل عليه. حملق في وجهها في حيرة. لا يذكر الآن غير اسمه!

أخذته معها, وعلا نداؤها: اصحَ يا نايم.. رمضان كريم, فاض بالنعم, شهر الكرم.. لقيت كرم.. يا أم كرم. ومازالت تطوف بالولد وتتوقف أمام البيوت وتنادي, وتطلب من كرم أن يحاول التعرف على بيته, كانت تقترب من البيت وتنادي, سمعتها أم كرم التي فرغت من عمل الكعك منذ قليل, واكتشفت لتوها أن ابنها ليس في سريره, وظنته ذهب مع إحدى الجارات. جرت إلى الشارع متلهفة, كان كرم يقف بجوار المسحراتية. رأى أمه ورأته. نكس رأسه وأمسك بجلباب المسحراتية كأنما يحتمي بها. كان يحس بالندم ويخشى أن تعاقبه أمه لخروجه بغير علمها. فهمت أمه ما حدث. هي أيضًا كانت نادمة لأنها لم تخبره بالحقيقة من أول الأمر. شكرت المسحراتية, واندفعت نحو صغيرها. حملته وضمته بين ذراعيها, ومشت المسحراتية تدق طبلتها وتنادي: اصح يا نايم.. وحد الدايم.. سحورك يا صايم.. رمضان كريم.

 


 

حسن صبري