قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

(ابن مسكويه)
سر (رائحة المسك)

رسوم: ممدوح طلعت

قال بكل فخر:

- نعم.. العطر يتناثر من اسمي.. مسكويه.

كان أول شيء حرص على أن يعرفه, حين ناداه التلاميذ, في مدرسة المسجد, هو ماذا يعني اسمه, قال له شيخ الكتّاب:

- مسكويه.. يعني.. (رائحة المسك).

أحس الصغير أن (المسك) هذا لا شك شيء جميل, غالي الثمن,فكان سؤاله:

- وما هو المسك?

ورد شيخ الكتّاب:

- هو واحد من أعظم نباتات العطور, وأقواها رائحة ذكية.

وامتلأ (ابن مسكويه) بالفخر.. وعرف أن الناس يستخرجون البذور من نبات المسك, ويقومون بعصرها, وتحويلها إلى سائل, يباع بثمن غال في محل العطار.

وأراد الصغير أن يعرف المزيد عن اسمه.

وسرعان ما جاءه الجواب: العطور الجميلة, يتم تركيبها لدى أخصائي, يسمى بالكيميائي, ينزع العطور عن الورد, والقرنفل, والفل.

ولأن (الصغير) كان في السابعة من عمره, عام 1037 ميلادي, فإنه لم يبدأ في عملية جمع الزهور, واستخراج العطور منها, وتحويلها إلى عجينة, أو سائل, أو بخار إلا بعد أن صار صبيًا وسيمًا, في السادسة عشرة من العمر.

عرف (مسكويه) أو (رائحة المسك) أن هناك علمًا يسمى بالكيمياء, تعتمد عليه عملية إخراج العطور من النباتات, وقرر أن يتتلمذ على أيدي علماء عصره, فسافر إلى بغداد, وهناك التقى بالعالم الجليل (ابن العميد), الذي راح يتلو القرآن الكريم أمامه, وقال له:

- لو نظرت إلى آيات الله تعالى, وتدبرت هذه المعاني, فسوف تتسع مداركك, وتفهم الحياة بشكل أفضل.

وفي تلك الليلة, بدأ (مسكويه) في تلاوة القرآن الكريم للمرة الأولى في حياته, وبعد أن انتهى من قراءته طوال أسبوع بأكمله, عاد إلى أستاذه, وسأله:

- سيدي.. كنت مجوسيًا أعبد النار, واليوم فقط صرت مسلمًا, أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا رسول الله.

ربت العالم الكبير على كتف تلميذه, وقال له:

- الآن, عرفت الطريق الصحيح, فاستكمل المسيرة.

وبدأت رحلة طويلة هدفها تحصيل المزيد من المعرفة, قرأ التاريخ الإنساني السابق عليه, وحفظ القصائد الجميلة التي كتبها أشهر الشعراء, ودرس الفلسفة, وعلم الكلام, وقرر السفر إلى المدن البعيدة, ليبحث عن الحقيقة.

وكان كلما التقى واحدًا من الباحثين عن المعرفة, يردد:

- المعرفة جزء لا يتجزأ.. كله معًا.

لم ينس قط أن اسمه يعني (رائحة المسك), واستجمع الكثير من نباتات الزهور والزينة واستطاع أن يستخلص منها عجائن ذات رائحة ذكية, وتوصل إلى مفهوم بالغ الأهمية, راح يدونه في كتابه (الفوز الأصفر, حين قال:

(كل شيء كالكيمياء, مقدمات, ونتائج, الفلسفة ليست فقط علم الكلام, بل هي محاولة للتوصل إلى نتيجة مؤكدة من خلال معلومات أساسية مسبقة).

وقرر العالم (ابن العميد) أن يعطيه الفرصة الكبرى في حياته, حين قال له:

- ما رأيك لو توليت أمر مكتبتي?

ولم يشعر إنسان في عصره, بسعادة عميقة, مثل تلك التي عرفها (مسكويه) في تلك الليلة, فلا شك أن مثل هذه المكتبة, المتنوعة العناوين, تعد منهلاً, وكنزًا للمعارف.

ووجد نفسه في محيط واسع من المعرفة العلمية والتاريخية, والأدبية, فقرأ كتب الأقدمين في الفلسفة, وأحكام الشريعة الإسلامية.

وكغيره من العلماء المسلمين, حاول أن يوفق بين العلم والفلسفة, والشريعة الإسلامية.

وتوصل إلى أن الفلسفة نوع من الابتكار.. مثل العلم.

وأن الفلسفة الإسلامية صنعها أصحابها لخدمة المسلمين, وأن العلم قام لخدمة البشر.

وكتب في علم الأخلاق, ورأى أن هذا العلم هو العلم بما يجب أن تكون عليه أخلاق الإنسان في الجماعة ولهذا كانت محبة الناس جميعًا أساس الفضائل.

وكذلك أحكام الشريعة, لو فهمها المسلم فهمًا صحيحًا, لكانت مذهبًا أخلاقيًا قوامه محبة الإنسان للإنسان.

وهكذا, ولد ما يسمى بعلم الأخلاق في الإسلام. وعلى يدي (ابن مسكويه), المعروف أيضًا باسم أبو علي الخازن.

وتقدم به الزمن, وقدم المزيد من الكتب في التاريخ, وعلم الكيمياء, وعلم الأخلاق. وأحسن أن الأخلاق كما كتب عنها (أرسطو, وأفلاطون), و(جاليزس), وغيرهم, لم تكن يومًا مكتملة إلا بفضل ما أضيف إلى هذا العلم من أحكام الشريعة الإسلامية.

وراح (ابن مسكويه) يردد, وهو يلفظ روحه إلى بارئها:

- حاولت دائمًا أن أبلغ الناس أن الدين وشعائره سبيل إلى رياضة النفوس على الخير والمحبة.

 


 

محمود قاسم