فأر في السُّوقِ.. وآخرُ في البيتِ

فأر في السُّوقِ.. وآخرُ في البيتِ

رسوم: عبدالعال

اهتَدَى رجلٌ محتال إلى فكرةٍ يمكنْ من خلالِهَا استثمارُ الفَأْرينِ اللذينِ يحتفظُ بهما في بيتِهِ عدّة أسابيعَ. وكانَ طوالَ الوَقْتِ يفكِّرُ, ويُجْهِدُ دهنَهُ في البحْثِ عَنْ طريقةٍ مثلى للاستفادةِ منَ الفأرينِ.

وكانَ يعيشُ معَ زوجتِهِ في فقْرٍ دائمٍ. واشتهرَ بكونهِ محتالاً, لا يثقُ بهِ أحدٌ. ومضَى إلى زوجتهِ ليخبرهَا بالفكرةِ التي ستخلِّصهُما منْ حياتهمًا البائسةِ. وقالَ لها: (إذَا نفّذْتِ الخطّة التي سأقْترحُ عليكَ, فأنَا أعدُكَ بأننًا سنتخلَّصُ من الفقرِ بصفة نهائيةٍ).

جلسَتْ زوجتهُ تُصغي إليهِ بدونِ أيّ اعتراضٍ. واصَلَ الرجلُ كلامَهُ قائلاً: (سأستدعِي اليومَ بعضَ الأصدقاءِ لتناولِ وجبةِ الغداءِ معَنَا).

نظرتْ إليهِ زوجتُهُ نظرةً احتجاجٍ, ثمَّ قالتْ: (مِنْ أينَ لنَا أنْ نقيمَ لهمْ مأدبةً?).

وقاطعهًا قائلاً: (أعْرفُ ما ستقولينَ.. ولكنْ اصبري, وأنصِتِي حتى أنْهي كلامي).

- طيِّبْ... تفضَّلْ!

قالَ المحتال: (ستُهيئينَ الكَسْكَسْ بالسَّمْنِ البلديِّ مَعَ ما يلْزَمُ منْ حمصٍ وبصلٍ لاذعٍ, وعنبٍ مجفّفٍ.. ثمَّ طاجنًا كبيرًا مليئًا باللّحمِ معَ البرْقُوقِ المجفّفِ والبَصَلِ المَقْلي, واللّوْزِ البلدي الأصيلِ.. ولا تنْسي أنْ تضَعي بجانبِ المائدةِ صحْنًا كبيرًا حافلاً بشتّى أصنافِ الفواكِهِ.. أريدها مأدبةً تثيرُ إعجابَ ضيوفي.. ولكنْ انتبهِي!... حينَ أُقدِم بصُحبتِهِمْ إلى بيْتنَا, سأسلُكُ أمامَهُمْ: (مِنْ أخبركَ أنّني سأعودْ بصحبةِ ضيوفٍ? ومنْ أيْنَ لكَ كُلُّ هذا...?) عليكِ أن تجبي بردٍّ واحدٍ لاَ يتغيّرُ: (الفأرُ, الفأرُ يا زوْجي العزيزْ!).

قالتِ الزوجةُ مندهشةً (أيّ فأرٍ يا رجلُ, هلْ جننتَ?).

وكانَ المحتال قدْ ربطَ فأرًا أبيضَ إلى إحدى قوائمِ المائدةِ, وقالَ لزوجتهِ: (انظري إنه فأرٌ ذكيٌ, ولديَّ مثيلٌ لهُ, سأحملهُ معي إلى السّوقِ. نفّذي ما قُلْتُ لكِ, وسَتَريْنَ!).

ثمَّ مضى إلى السُّوقِ بعدَ أنْ أخذَ معهُ فأرًا أبيضَ شبيهًا بالفأرِ المقيّدِ. ووضعهُ داخلَ قفصٍ مفروشٍ بقطعةِ حريرٍ حمْراءَ.

وحرصَ المحتال على مخاطبةِ الفأرِ بصوتٍ مسموعٍ, وتظاهرَ وكأنهُ منخرطٌ معهُ في حوارٍ متبادلٍ. يضعُهُ تارةً على كتفهِ, وتارةً فوقَ رأسهِ. وسرعانَ ما تجمَّعَ عليهِ الفضوليونَ منْ كلِّ جانبٍ, وبعضهمْ يقولُ: (تعالوا لتشاهدُوا فأرًا يفهمُ لغةَ البشرِ ويردُّ عليها, انظرُوا إلى هذا الرجلِ إنهُ يحاورُ فأرًا.. أليسَ كذلكَ?).

وابتسمَ المحتالُ مسرورًا بلعبتهِ, وهوَ يبحثُ بنظرهِ عنْ تاجرٍ كبيرٍ مغفّلٍ. ثمَّ توجَّهَ إلى مقهى حيثُ يستريحُ التجارُ والمتسوّقونَ. وجلسَ لوحدهِ وطلبَ منَ النَّادلِ برَّادْ شايٍ وإسفنجتيْنِ.

وجعلَ يتحدَّثُ إلى الفأْرِ ثمّ يصْمُتُ كأنهُ يُصْغي إلى رُدُودِهِ. وامتلأ المَقهى بالنَّاسِ. وتعالتْ بعضُ الأصواتِ: (هذا الرجلُ أحمقُ,إنهُ يتحدثُ إلى فأرٍ).

وقالَ صوتٌ معارضٌ: (بلْ إنَّ في الأمرِ سرّاً).

وحينَ لمحَ المحتال التاجرَ الكبيرَ وسطَ الفضوليينَ, رفعَ القفصَ وبداخلهِ الفأرُ, وقالَ: (إنّهُ فأرٌ ذكيٌّ يفهمُ الكلامَ, وينفّذُ كلَّ ما يطلبُ منهُ).

وتقدّمَ التاجرُ الكبيرُ, ونظرً بدهشةٍ واهتمامٍ إلى الفأرِ, وقالَ: (وما هيَ حجتُكَ إيّهًا الرجلُ?).

قال المحتال: (إنّني أدْعوكَ, أنْتَ وأربعةً مِنْ أصدقائِكَ إلى مأدبةٍ في بيْتي.. والفأرَ هُوَ الذي سيقومُ بكلِّ شيءٍ).

قالَ التّاجر مندهشًا: (إنَّ هذا شيءٌ عجيبٌ حقّا. لمْ أسمعْ بمثلهِ منْ قبلُ.. تعالوا يا أصدقائي, سنَمْضي معَ الرَّجُلِ).

وحينَ صارَ المحتال برُفْقَةِ التّاجرِ وأصدقائهِ, قالَ لهُمْ: (انتبهوا الآنَ!) وأخرَجَ الفأرَ منَ القَفَصِ وقالَ لهُ: (اسمعْ يا فأري العزيزْ, امضِ إلى بيْتي بسرعةِ الرّياحِ, وقلْ لزوْجتي أنْ تهيئ صحْنًا كبيرًا من الكَسْكَسِ بكلّ ما يلزمُ, وطاجنًا باللّحمِ والبرقوقِ والزبيبِ.. ولاَ تَنْسَ أنْ تحملَ معكَ كلَّ أصنافِ الفواكهِ المتوفّرةِ الآنَ في السُّوقِ.. وحذارِ.. إذا نسيتَ أوْ تأخَّرْتَ.. امضِ الآنَ!).

هزّ الفأرُ رأسهُ الصغير, وتشمّمَ الهواءَ كأنّهُ يتوقُ إلى الانعتاقِ من القفصِ بأسْرْعَ ما يٌُمكنُ. ثم أضافَ: (أهٍ, كدتُ أنسَى.. أيهَا الفأرُ.. قدِّمْ لزوجتي كلَّ ما تحتاجُ منْ مساعدةٍ, فأنتَ تعلمُ إنّها وحيدةٌ, هلْ فهِمتَ?).

وهزّ الفأرُ رأسهُ منْ جديدٍ. فقالَ المحتال: (كدتُ أنسى مرةً أخرى). وأخْرَجَ خيْطًا دقيقًا من الحريرِ الأحمرِ, وأضاف:(حينَ تنْتهيِ منْ أعمالكَ.. قلْ لزوجتي أنْ تربطَ رجلكَ الصغيرةَ بهذا الخيطِ إلى المائدةِ, كمَا هيَ العادةُ. هيّا.. نفّذْ جميعَ الأوامرِ!).

وانطلقَ الفأرُ كالسَّهْمِ, وقدْ تخلّصَ منْ وطأةَ الزُّحامِ ودهشةِ المغفّلينَ, واختفَى عنِ الأنظارِ.

وكانتِ الطريقُ منَ السُّوقِ إلى بيتِ المحتال طويلةً. وحينَ وصلُوا: فتحَ البابُ أمامَهُمْ.

وظهرتِ الزوجَةُ مبتسمةً, مُنْشرحةً. ورَحَّبَتْ بهمْ أجملَ ترحيبٍ. وهمّ أنْ يتكلّمَ فقاطعَتْهُ قائلةً: (لا تقُلْ أيّ شيء يا زَوْجي العزيزْ.. لقدْ أخبرني فأْرُنًا العجيبُ, بكلِّ شيءٍ, وجاءَني بكلّ ما طلبْتُ.. وساعدني في تهيئة كلِّ شيءٍ.. تعالوا إلى غرفةِ الضُّيوفِ.. وانظروا بأنفسكمْ!).

كانتْ هناكَ مائدةٌ عليهَا صحنٌ كبيرٌ منَ الكَسْكَسِ, وعلى طاولةٍ مجاورةٍ طاجنٌ كبيرٌ. وعلى الأرضِ قربَ النافذةَ طبقٌ حافلٌ بألذِّ الفواكِهِ وأنضَجِهَا. ونظرَ كبيرُ التُّجَّارِ إلى المائدةِ الرئيسيةِ فرأى فأرًا أبيضَ مربوطًا بشريطٍ رفيعٍ منَ الحريرِ الأحمرِ. وهتفَ قائلا: (أليسَ هذا هو الفأرُ الذي كانَ بيدِكَ في السوقِ? يا لهُ منْ فأرٍ عجيبٍ! بكمْ تبيعُ هذا الفأرُ أيهَا الرجُّلُ?).

وتدخّلَ أحدُ المدعوينَ وقالَ: (لنْ أدعَ أيّ واحدٍ منكمْ يشتري هذا الفأرَ.. سأدفعُ مقابلهُ كلّ مالي إذا لزمَ الأمرُ).

واندفعَ الآخرونَ يرغبونَ في شراءِ الفأرِ, كلُّ واحدٍ منهمْ يُبدي استعدادهُ لدفعِ مبلغٍ أكثرَ من الآخرينَ جميعًا.

واطمأنّ المحتال لنجاحِ خطتهِ. فأبدى اعتراضهُ على العروضِ المقدمة, وقالَ: (تفضّلوا أولاً لتناولِ هذا الطّعامِ الشهيّ, أمّا الفأرُ فلنْ أُفارقَهُ مهْما دُفِعَ فيه من ثمنٍ).

واستمرّتْ المزايداتُ بينَ الضيوفٍ, والزوجةُ تتابعُ الأمرَ منْ وراءِ البابِ إلى أنْ انتهَوْا منَ الأكلِ. ثمَّ دخلتْ عليهمْ وقالتْ مخاطبةً: زوجَهَا: (هؤلاءِ ضيوفكَ, فلاَ تقلقْ أحدًا منهمْ...وأقترحُ عليكَ, أن تبيعَ الفأرَ لكبيرِ التجّارِ هذَا).

وقالَ بانفعالٍ مفتعلٍ: (يَا زوجتِي..إنكِ تطلبينَ منّي شيئًا مستحيلاً, ولكنكِ تعرفينَ أنّني لاَ أستطيعُ أنْ أرفُضَ لكِ طلبًا).

ثُمّ تدخّلَ التاجرُ الكبيرُ وقالَ: (أنآ أوْلَى بهذَا الفأْرِ...وسأدفعُ فيهِ المبلغَ المطلوبَ).

وأخرَجَ صرَّةً كبيرةً, وفتحهَا أمامَ الجميعِ, وكانتْ مليئةً بالقطعِ الذهبيّةِ. وطلبَ منْ أصدقائِهِ أنْ يضيفوا المبالغَ التيِ لديهِمْ ليتمكّن من الحصولِ علَى الفأرِ. وكتمَ صاحبَ الفأرين سُرورَهُ بصعوبةٍ. ومضَى التاجرُ بالفأرِ سعيدًا. وشكرَ أصدقاءهُ علَى تنازلهِمُ العسيرِ لصالحِهِ. ووعدهُم أنْ يكونُوا أوّل منْ يحظَى بالمأدبةِ الفاخرةِ الّتي سيوصي الفأرَ بإعدادِهَا. بلْ سارعَ ودعاهُمْ للحضورِ إلى بيتِهِ مساءَ ذلكَ اليومِ. وألحّ عليهمْ, وهو يوجّهُ أوامرَهُ للفأرِ, بأنْ يمضيَ إلَى البيتِ ويوفِّر لزوجتِهِ كلّ الضرورياتِ لإقامةِ عشاءٍ فاخرٍ علَى شرفِ ضيوفِهِ.

ووجدَهَا الفأرُ الأبيضُ فرصةً للتخلصِ منْ كلّ ذلكَ اللغطِ الذّي دارَ حولَهُ, واخْتَفى بيْنَ سيقانِ سنابِلِ القمْحِ, في اتجّاه غابةٍ قريبةٍ.

وفي المساءِ, فوجئتْ زوجةُ التاجِرِ الكبيرِ, وهي تَرى زوجَهَا مرْفوقًا بعدّةِ ضيوفٍ, هكذَا فجأةً دونَ إخبارٍ مسبقٍ. ودُهشتْ أكثر حينَ سألَهَا زوجُهَا: (أيْنَ هو الفأْرُ? وأينَ هوَ العشاءُ الفاخرُ الّذي كلّفتُ الفأرَ الأبيضَ أنْ يساعدكِ في إعْدادِهِ, ثُمّ مَا هَذَا? إنهُ غيرُ مربوطٍ إلى المائدَةِ!).

وشرعَتْ الزوجَةُ في البُكَاءِ معتقدةً أنّ زوجَهَا قدْ أُصيبَ بالجُنونِ. وجاءَ الجيرانُ يستطلعونَ الأمْرَ. ودُهشُوا وهمُ يرونَ التّاجرَ المحتَرمْ يصرُخُ: (أينَ هو فأْرِي...أيْنَ هُوَ الفأْرُ العَجِيبُ?).

فَقرّرُوا جميعًا أخْذَهُ إلى طَبيبٍ للأمراضِ العقليّة, عسَى أنْ يعطيَهُ دواءً مهدّئًا.

ولكنَّ أصدقاءَ التّاجِرِ, أكّدوا أنّهُ اشتَرَى بالفِعْلِ فَأْرًا عجيبًا, وأنّهُمْ كانُوا يرغَبونَ في شرائِهِ هُمْ أيضًا. وقرّرُوا أنْ يعودُوا عنْد البائِعِ لاستفسارِهِ. وكانَ المحتال قدْ استعدِّ لكلِّ شيءٍ. ولمْ يفاجأْ حينَ طَرَقُوا بابَهُ ليْلاً. ورأَى التّاجرَ الكبيرَ, وقدْ أوشَكَ أنْ يجنَّ بالفِعْلِ. وقالَ لَهُ بكُلِّ هدوءٍ: (ألَمْ تُدركْ خطأكَ أيُّهَا التّاجرُ?).

- أنا أخْطَأْتُ? فِي ماذَا وكيْفَ?

- إنّكَ لمْ تدُلَّ الفأْرَ علَى الطّريقِ إلَى بيْتِكَ...إنَّهُ لا يَعْرِفُها...أطْلقْتَهُ في حقلٍ دونَ أن تَدُلَّهُ علَى الطّريقِ. ألَيْسَ كذلِكَ?).

وَكَادَ يُغمَى على التَّاجِرِ مِنْ هَوْلِ المفاجَأَة وَهُوَ يقُولُ: (إنَّكَ عَلَى حَقٍّ, نَعَمْ لَقَدْ ضَيّعتُ الفَأْر مِنْ يَدِي دُونَ إعطائِهِ عُنْوانَ بَيْتِي).

وانْخرَطَ المحتال فِي بُكاءٍ مصطنَعٍ, وهُوَ يُرَدّدُ: (لَقَدْ ضاعَ مِنّي فَأْرِي...!).

وانْطَلَقَ التّاجرُ المغفَّلُ نَحْو الحَقْلِ وغَاصَ وسَطَ سيقانِ القمحِ يُنادِي: (أيْنَكَ يَا فأْرِي العجيبْ, عُدْ إليَّ أرْجوكَ, سأَبْحَثُ عنْكَ أيْنَمَا كُنْت).

وَلمّا انْصَرَف المُحْتجُّونَ, عَادَ الرجل إلَى زوجتِهِ وَقَال لَهَا: (لَقَدْ تخَلّصْنا منَ الفقرِ والبؤْسِ, أليسَ كذلِكَ?).

لكن القصة لم تنتهِ! لأن جارتهما كانت تمرُّ فسمعت الحوار, وذهبت إلى القاضي الذي قال إن فِعلَ ذلك الرجل المحتال لا يجوز, حتى لو كان التاجر مغفلاً, يجب أن يُعاقَب المحتالُ, وأن يرد المال, حتى يتعلم أن يكسب من عمله وعرقه فقط, لا من الضحك على الآخرين!

 

 


 

ياسينُ بهوش