ذكريات عازف الموسيقى

ذكريات عازف الموسيقى

رسوم: محمد عفت

الموسيقى.

كانت هذه إجابتي حين كنت صغيرا, عن كل سؤال. يسألونني ماذا تأكل, فأجيبهم: موسيقى! وماذا تشرب, فأقول لهم: موسيقى! وماذا تعزف? وماذا تدرس? وماذا تلعب? وماذا تطلب? لم أكن أعرف شيئا آخر غير الموسيقى.

وكانت الهدايا التي تأتي لي في مناسبات النجاح, وفي الأعياد, وعند رجوع أقاربي من السفر, وعند بداية الإجازات الصيفية, وفي عطلات نصف السنة, كلها لها علاقة بالموسيقى. آلات وترية صغيرة, وآلات نفخ مناسبة, وآلات إيقاع رقيقة. آلات من مصر, وأخرى من أوربا, وغيرها من الصين! وأنا لا أملُّ عن العزف. ولا أتوقف إلا حين أنام. وأظن أنني كنت أحلم حلما موسيقيا كل ليلة, إلا أنني ـ للأسف ـ لم أعد أتذكر.

ولم يكن والداي يبخلان علي حين أطلب منهما ما يساعدني في تنمية هواياتي, فاشتركت في فريق العازفين بالمدرسة, وحصلت على دروس عزف بالبيت, ووعدني أبي بشراء بيانو حين أنجح في نهاية الشهادة الإعدادية أي بعد ثلاث سنوات كاملة.

وكانت الحفلات الموسيقية هي مقصدي الوحيد, فلا حديقة الحيوانات تجذبني, ولا مباريات كرة القدم تشدني إليها, ولا ركوب الخيل, ولا التهام الحلوى والمثلجات مثل باقي الأصدقاء. فقط الموسيقى, والحفلات الموسيقية.

كنت أذهب فأجلس في الصفوف الأولى, لأراقب أيدي العازفين وهي تروح وتجيء على خيوط آلة القانون, أو الأيدي تدق على الدفوف, والأصابع تداعب آلة العود, والهواء الصادر من فم العازفين, الذي يخرج من وجهه كالكرة, ليمشي في ماسورة الآلة الموسيقية, فيتحول أنغامًا.

وحدث أنني كنت أستعد لامتحانات نصف العام, حين عاد عمي من السفر, بآلة جديدة, ذهبية اللون, من التي تعزف موسيقى الجاز. ونسيت أن غدا موعد الامتحانات, وأن علي أن أنام مبكرًا, حتى أستيقظ مبكرا, وأذهب في نشاط إلى أداء الامتحان.

نسيت ذلك كله ولم أتذكر غير الآلة الجديدة, وبقيت في غرفتي التي كانت معزولة الصوت, بعد أن جهزها والداي لي حتى لا أزعج الجيران. وظللت أعزف طول الليل. في الصباح, وحين جاء وقت الاستيقاظ والوضوء والصلاة والإفطار, لم أكن موجودا, وحين أيقظتني أمي بصعوبة, وذهب بي أبي إلى المدرسة, لم يكن لدي شيء في ذهني. كانت الإجابات تبخرت. تماما مثل الأنغام التي تصعد من الآلات الموسيقية. ولم أجب على الأسئلة, وكانت النتيجة صفرًا كبيرا في اختبار المادة النهائية.

عرف الجميع ذلك. أهلي, وأقاربي, وأصدقائي, وجيراني, وحتى الذين جاءوا من السفر بعد شهور! وتوقف الإعجاب بهوايتي, وتوقفت الهدايا, وتوقفت الحياة. وتحولت الإجازة إلى كابوس لأنني ظللت أذاكر حتى أدخل إعادة الامتحان, وأجتاز الاختبارات, لأصعد إلى الصف التالي.. وكلما نظرت إلى آلة موسيقية أحسست أنها تلومني لأنني أهملتها بعد أن أهملت دروسي.

ظهرت النتيجة, ونجحت, وبقي الدرس الذي تعلمته: الموسيقى شيء جميل, والألحان التي تصدرها الآلات الموسيقية شيء رائع, ولكن علي أن أنظم وقتي, وأن أوزع الوقت بين الدراسة والهواية, فما أجمل لحن النجاح!

 


 

أميرة غريب