قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

رسوم: ممدوح طلعت

سر الفراشة المسافرة

من تعلم لغة قوم أمن مكرهم .

وردد الصغير (حنين), وهو يسمع الحديث الشريف: صدق الرسول الكريم...

ثم قال لأبيه (ابن اسحاق):

- أبي... ما أجمل أن يتعلم الإنسان لغات الآخرين!

كان (حنين) قد لاحظ, عندما ذهب إلى سوق المدينة, مدينة (الحيرة) العراقية, أن هناك بعض الرجال يتحدثون بلغات غير مفهومة, فلما سأل أباه, قال له:

- هذه هي اللغة الفارسية, لغة فارس...إنها قريبة من لغتنا العربية.

ومن يومها, والصغير (حنين) تتلقى أذناه كلمات هذه اللغة, ومفرداتها, ويحفظ الجديد منها. حين التقى بالتاجر (صفوان) الذي يبيع السجاد, ولاحظ أنه يتكلم العربية بطلاقة...قال (صفوان):

- نعم, أنا أحب اللغة العربية, لغة القرآن الكريم.. .وأيضا...

ثم سكت قليلاً: وقال: علمتني التجارة أن أتحدث إلى الآخرين بلغاتهم حتى يحسوا أنني واحد منهم, أفهم ثقافتهم.

حدث ذلك في العام 821 الميلادي, أي في العام 206 الهجري, في مدينة الحيرة التي ولد بها (حنين بن اسحاق العبادي), وهو الآن في الثانية عشرة من العمر.

طوال السنوات السابقة, وجد الصغير نفسه يعيش بين منزله الصغير, وصيدلية أبيه الواسعة, وكتب الطب, والأعشاب, وكان أول شيء تعلمه على يدي أبيه, هو اللغة اليونانية, التي كان أبوه يتقنها, ويترجم عنها الكثير من الوصفات العلاجية المؤكدة.

والآن, في هذا العام 821, هاهو (حنين) يبدأ في إجادة اللغة الثالثة: الفارسية.

ولم يمر عامان, إلا وصار يتحدث إلى الغرباء بهذه اللغات الثلاث. وفي سن الخامسة عشرة, اكتشف أن هناك لغة قديمة رابعة موطنها أرض العراق, هي اللغة السريانية, فقرر أن يتقنها.

وبدأت رحلة الصبي مع العلم والمعرفة, من خلال إتقان اللغات.

وصار الآن, في العشرين من العمر, فقرر أن يتوجه إلى (بغداد) وسرعان ما سعى لمقابلة الطبيب الشهير (جبريل) طبيب الخليفة المأمون, قال الطبيب: كم أنا معجب بنبوغك, واهتمامك بالتعرف على علوم الآخرين ولغاتهم.

وصار (حنين) تلميذا نجيبا لأستاذه الطبيب, الذي قال له بعد عام:

- سألني الخليفة المأمون عن شاب نابغة, يحب العلم, من أجل أن يعمل في مجال ترجمة العلوم عن اليونانية.

وكان اللقاء المنتظر, بين الخليفة, والشاب (حنين). قال الخليفة:

- حدثني عنك أستاذك أنك تتقن اللغات, وتحب العلم, وأنا أريدك أن تتولى ترجمة الكثير من الكتب المهمة القديمة والحديثة.

وبدأت الرحلة.

رحل من مكان لآخر...

ومن كتاب إلى كتاب.

قام بمساعدة تلاميذه الذين اكتشف مواهبهم في عمل المزيد من الترجمة الصحيحة لكتب العلوم المؤلفة بلغات أخرى, ووصل عدد الكتب التي ترجمها إلى مائة كتاب, وهي كتب بالغة الضخامة وليست أعمالاً صغيرة, أو بسيطة.

وفجأة, اكتشف (حنين) أن الزمن قد مر من حوله, وأخذه من الطفولة إلى الشباب, والرجولة ثم هاهو الآن صار في الستين.

نظر إلى وجهه في المرآة, رأى شعرا أبيض, لوجه بدأت التجاعيد تظهر عليه, ضحك, وسأل المرآة:

- من أنت...يا من خلف المرآة, كنت أظن أنني مازلت شابًا.

وتنهّد بقوة, وهو يقول: الحمد لله...أفنيت عمري فيما يفيد الناس.

وحدق (حنين) في المرآة, فاكتشف أن بصره قد ضعف, فقال ضاحكًا:

- يا إلهي...كم داويت أعين الآخرين, وقيل إنني طبيب عيون ماهر.

وبدأ في هذه السن في تأليف كتابه الشهير (مقالات في العين), الذي يصف فيه تركيب العين, وطبيعة الدماغ, والأعصاب, وأنواع الأمراض التي يمكن أن تحدث في العين, ثم وصف العلاج المؤكد لهذه الأمراض وكيفية الاحتفاظ بقوة الإبصار.

سأله حفيده, عندما انتهى من إعداد كتابه:

- جدي, لماذا لم تستفد من طب العيون وتعالج نفسك?

ضحك الجد, وقال:

- هو كتاب من أجلك, أنا أفنيت عمري في العلم, وتركت هذا العلم في كتبي المائة, ليستفيد منها جيلك, وأحفادك.

وعندما رحل (حنين) وهو في سن الواحد والسبعين, كان حفيده قد صار شابًا, وقرر أن يحفظ كتب جده, وأن يتعلم المزيد من اللغات.

 


 

محمود قاسم