بيتنا الأرض

بيتنا الأرض

الحمار المخطط الصغير لا ينسى

فى الصباح كان الحمار المخطط الصغير هو أول الحيوانات القادمة حديثًا التى سيوقع الكشف عليها كبير الأطباء البيطريين بحديقة الحيوان العريقة التى تجاوز عمرها مائة عام.

مع كل شحنة جديدة من الحيوانات الواردة حديثًا إلى الحديقة كان الطبيب العجوز يقوم بعمله المتكرر نشيطًا, يوقع الكشف الطبى الدقيق عليها, ليعالج أي جروح أو أمراض عارضة تكون بها, ثم يأمر بوضعها فى الأقفاص أو الحظائر المخصصة لنوعها كى يشاهدها الجمهور.

ما أن أدخل العمال الحمار المخطط الصغير الجديد إلى غرفة الكشف حتى بدأت ثورته, كان يشب واقفا على ساقيه الخلفيتين ويصهل ذلك الصهيل الضعيف (المبحوح) الذى تصدره الحمير المخططة, ولكن بألم يجعل صوته مؤثرًا رغم ضعفه. وعندما حاول العمال السيطرة عليه ودفعه نحو الحائط ليهدأ, لم يهدأ بل أخذ يضرب رأسه فى الحائط حتى خشي الطبيب العجوز أن يقتل الصغير نفسه, فأمر بإخراجه قليلا فى الهواء الطلق لعله يهدأ, وللغرابة فإن الحمار الصغير كان يقاوم الخروج من الغرفة , ويعاود الهياج والصهيل.

اندهش الطبيب العجوز من سلوك المخطط الصغير الذى لم ير مثله طوال خمسين عامًا قضاها بين الحيوانات, وظن أن المخطط الصغير يبكي إذ كانت عيناه الجميلتان تلمعان وكأنهما مغرورقتان بالدموع, واكتشف أن بصر المخطط الصغير ظل معلقًا بالحائط خلف المكتب الذى يجلس عليه, فالتفت لينتبه مدهوشًا إلى رقعة جلد لحمار مخطط كبير كانت تزين الجدار وراءه!

بعد دقائق من شرود عميق قضاها الطبيب العجوز وهو يحدق فى رقعة جلد الحمار المخطط على الحائط, أمر العمال بأن ينزعوا رقعة الجلد المثبتة بمسامير صغيرة فى الجدار وينزلوها, وكان المخطط الصغير يزداد هياجا وهم يتجمعون على رقعة الجلد لانتزاعها, وما ان هوت على الأرض حتى اندفع المخطط الصغير بقوة مفاجئة أوقعت الرجال خارج الرقعة التى استوت منبسطة على أرض الغرفة, ثم ساد هدوء غريب.. كان المخطط الصغير يستلقي على رقعة الجلد المخططة ويمرغ فيها رأسه مصدرا صوتا صغيرا مؤثرا وكأنه ينتحب.

ران الصمت إذ بدت وجوه العمال مذهولة مما يرونه, وكان الطبيب البيطري العجوز يبكي بدموع كبيرة وبلا صوت, ثم انحنى ببطء ورفع بحذر طرف رقعة الجلد المخططة عند مكان الرقبة, وقرأ المعلومات التى تُدون عادة على ظهر هذه الرقاع : ابتوشا - أنثى حمار وحشي مرضعة - نفوق اثناء النقل - 15 يناير 1981.

أعاد الطبيب العجوز طرف رقعة الجلد إلى وضعها, ونهض دون أن تتوقف دموعه, وتناول ملف قدوم المخطط الصغير : ذكر حمار وحشى - العمر المقدر سنتان - تاريخ الصيد 17 فبراير 1981 - مكان الصيد - ناميبيا - غابة ابتوشا.

مسح الطبيب العجوز دموعه وأخذ يحدث العمال الذين وقفوا صامتين فى انتظار تعليماته. قال لهم أن يحملوا المخطط الصغير ومعه رقعة الجلد المخططة وينزلوه بحظيرة خاصة فى مستشفى الحديقة, فهذه الرقعة من الجلد هى لأمه التي تم صيدها وهي ترضعه قبل أن يبلغ الفطام, وقد تعرف عليها من بصمة الخطوط البيضاء والسوداء و البنية على جلدها. إنه لم ينسها برغم مرور أكثر من سنة على فراقها, ولعله لن ينساها أبدا.

 


 

محمد المخزنجي