اريتريا.. الجميلة السمراء

اريتريا.. الجميلة السمراء

تصوير : فهد الكوح - حسين لاري

كَانتِ الحديقةُ التي تُحيطُ بمنْزلها الجديدِ غريبةً بأشجْارِها العمْلاقَةِ, وفراشاتِها الضَّخْمَةِ. وما حَيّرني أكْثرَ أنَّ هذهِ الأشجارَ, أسْمَعُها, بَيْنَ الحينِ والآخَرِ, تتكَلّمُ مَعَ الفَراشَ, بَلْ تَضْحَكُ وتَتمايلُ ذاتَ اليمينِ, ذاتَ اليسارِ كأنَّها تَرْقُصُ.

حاوَلْتُ, مرارًا, أنْ أُقْنعَ نَفْسي بأنّ الحديقةِ عاديةٌ لا شيءَ فِيها يَدْعو إلى الدَّهشةِ والغرابَةِ, لَكِنّي لَمْ أسْتَطِعْ. فالشّكوكُ تكْثُرُ وتَزْدادُ لحظَةً لحْظَةً, وما تَراهُ عَيْنايَ, وتَسْمَعُهُ أُذُنايَ, يجعلُني أثقُ بهذِهِ الظُّنونِ ثقةً عمْياءَ!

يَوْمًا ما, كُنتُ جالسًا على صُنْدوقٍ حديدي قديمِ لا يَظْهَرُ منْهُ إلاَّ الغِطاءُ. وكانَتْ أمِّي تَنصحُني بأنْ أبْتعدُ عَنهُ.

لا أدْري لِماذا أُفضِّلُ صباحًا باكِرًا أنْ أجْلِسَ عَليْهِ?!...كأن لِهذا الصُّندوقِ سحْرًا كبيرًا يَجذِبُني إليهِ!

قلتُ في نَفْسي: لماذا لا أفْتَحُهُ?!....ماذا يوجَدُ فيهِ?!...فِئرانٌ, أمْ نَمْلٌ, أمْ عناكِبُ, أمْ عقاربُِ?!...ينبغي أنْ أحْتَرسَ منهُ!

تَردّدْتُ طويلاً, قَبْلَ أنْ أفْعَلَ ذلِكَ, والفِكْرَةُ تكْبُرُ في ذِهْنِي, تَكْبُرُ....ولَمْ تَهْدأُ نَفْسي, ويهنأُ بالي, حَتَّى كَسَّرتُ القُفْلَ الصَّدئ بمِطرَقَةٍ, ورَفَعْتُ الغطاءَ بِحَذَرِ وحيطةٍ شديدَيْنِ...

هَلْ تَعْرفونَ ماذا وَجَدْتُ فِيهِ?...لا فِئْرانَ, ولا نَمْلَ ولا عناكِبَ, ولا عقارِبَ, ولا غَيْرَها مِنَ الحَيواناتِ والحَشَراتِ!

لَقَدْ وَجَدْتُ دَرَجا حَجَرِيّا!

نَزَلْتُ دَرَجَةً, دَرَجتينِ, ثلاثا, وقلْبي يخفِقُ, ورجلايَ تَرتَعِشانِ...وعنْدَما هبطَتُ الدَّرَجَة العِشْرينَ, سَمِعْتُ صَوْتًا خافِتًا يَقولُ:

- انْزِلْ, انْزِلْ, لا تَخْشَ أذيً, يا بُنَيَّ! الضُّعفاءُ والجُبناءُ هُمُ الذينَ لا يُغامرونَ!...أنْتَ حَفيدُ ابْنِ بَطّوطَةَ والإدريسي والحَسَنِ الوَزّانِ, فلماذا تَرتَعِشُ وتَتَردّدُ في نُزولِكَ?!

سأَلْتُ الصَّوْتَ الخَفِيَّ:

- وماذا أجِدُ في آخِرِ هذهِ الدَّرجاتِ?!...هَلِ الخَواءَ? أمِ المتَاهَةَ?

ضَحِكَ مِنِّي قائلاً:

- كُلَّ خَيْرٍ, كُلَّ خَيْرٍ, يا بُنَيَّ!...يَكْفي أنْ تُغْلِقَ عَيْنَيْكَ كِلْتيْهِما, ثُمَّ تَفتَحُهما لتَجِدَ نَفْسَكَ ضَيْفًا في بَلَدٍ عَرَبِيٍّ.

صِحْتُ فَرِحًا:

- أحقّا ما تَقولُ, يا سيّدي?!

- طَبْعًا طَبْعًا, أنا لا أكذِبُ عَلَيْكَ. قُلْ لي: ماذا تُفَضِّلُ أنْ تزورَ من البلادِ العَرَبيّةِ!...مِصْرَ?...سوريةَ?...فلسطينَ?

سألْتُ نفسي: ماذا أزورُ? ماذا أزورُ?...سأخْتارُ دَولةً عَربيّةً نائيةً جدّا جدّا, تَقَعُ في القَرْنِ الإفريقيِّ!...إنَّها الحَسْناءُ السَّمْراءُ!

- فيمَ تُفكِّرُ, يا بُنَيَّ?!

سألَنِي الصَّوْتُ, فأجَبْتُهُ:

- أُريدُ أنْ أزورَ الحَسْناءَ السمراءَ!

ابْتَسَمَ قائلاً:

- أنا طَلَبْتُ مِنْكَ دولَةً, لا طِفْلَةً!

- الحَسْناءُ السمراءُ, يا سيدي, هي (إريتِريَا)!

- يا لَكَ من ذَكِيّ!...سأُحَقِّقُ طَلَبَكَ, إذنْ, هَيَّا إلى الحسناءِ السمراءِ!

أغْلَقْتُ عَيْنَيَّ كِلْتَيْهِما, ثُمَّ فَتَحْتُهُما حينا فَوَجدْتُ نفسي, أمامَ طِفْلٍ صغيرٍ في سِنّي, حَيَّاني باسِمًا:

- أهْلاً بِكَ, يا صديقي!

- أيْنَ أنا?!...ومَنْ أنْتَ?!

- أنْتَ في إريتِرْيا, الحَسْناءِ السَّمْراءِ, وأنا طِفْلُها الوَفِيُّ عَلِيُّ.

- قُلْ لي, يا عَلِيُّ: ما هِيَ حُدودُ بلادِكَ الجميلَةِ?

- تحُدُّها السُّودانُ شمالاً وغَرْبا, وأثيوبيا جنوبا وجيبوتي من الجنوب الشَّرْقي, وتُطِلُّ على البَحْرِ الأحْمَرِ.

وتَبْلُغُ مِساحَتُها 124320 كيلومِتْرًا مربَّعًا. وتَضُمُّ أرخبيلَ (دهلك) الذي يتألّفُ من 120 جزيرةً. ويَمْتَدُّ ساحِلُها البَحْرِيُّ 1080 كيلومِتْرًا, الذي يَصِلُ بَيْنَ البَحْرِ الأحمَر والمحيطِ الهِنْدي, ويَشهدُ حركَةً تجاريّةً بحْريّةً نشيطَةً بَيْنَ آسْيا وأورُبا.

ويَعودُ اسْمُ بلادي (إريتريا) إلى الاسْمِ اليوناني الأوّلِ للبَحْرِ الأحْمَرِ (سينوسي أرتويوسي).

قُلْتُ لَهُ في حَماسَةٍ:

- يَظْهَرُ لي أنَّ الإريتريِّينَ شُجْعانٌ, يَنْسونَ خلافاتِهِمْ ليَحْموا بلادَهُمْ!

- طَبعًا, يا صديقي. ولَكَ أنْ تفْخَرَ بأنَّ بلادي عربيّةٌ. سكَنها العَربُ قبْلَ الميلادِ بألف سنةِ. وتآلفَتْ فيها تِسْعُ قَوْميَّاتٍ, هِيَ: تيجراي, تغرنيا, بجة, كوناما, نارا بلين, رشايدة, ساهو, عَفَر.

وفي سَنَةِ 1882م, احْتَلّتْ إيطاليا ميناءَ (عصب) ثُمَّ ميناءَ (مصوع) وكانَ الإمْبراطور هيلا سلاسي يُسَيِّرُ بلادي, قَبْلَ أنْ يَنْقُلَ معامِلَها وخَيْراتِها العميمَة إلى أثيوبيا, ليَجْعَلَ الأولى دوْلةً ضعيفةً, والثانيَة دَوْلةً قويّةً.

- وكَيْف تَخَلَّصْتُمْ مِنْ قَبْضَةِ هذا الحاكِمِ الظّالِمِ?

هَزَّ رأْسَهُ قائلاً:

- لَقَدْ خُضْنا حَرْبا طويلَةً, دامَتْ خَمسينَ عاما.

حَرَّرْنا بلادنَا. في 25 / 5 / 1991. وفي 25 / 5 /1993 نَظَّمْنا حَفْلاً كبيرًا بعاصِمَتنا (أسْمَرا) أعْلنّا فيهِ أنَّ أريتريا دَولةٌ مستقلَّةٌ.

ورفَعْنا على مَقَرِّ الجمعيَّةِ العُموميَّةِ للأُمَمِ المُتَّحِدةِ بنيويوركَ عَلَمَنا الوَطَنيَّ.

وألْوانُهُ هِيَ: الأحْمَرُ, الأزْرَقُ, الأخْضَرُ, يَحْتضِنُ غُصْنَ الزَّيتونِ الذَهَبِيَّ.

بَيْنما نَحنُ كذلِكَ, إذا بأُمِّهِ تُحْضرُ لَنا الوَجْبَةَ الغِذائيَّةَ.

سألني عَلِيُّ بَاشا:

- هلْ تُحِبُّ السَّمَكَ?

- أَجَلْ, يا صديقي, إنَّ بلادي تَزْخَرُ بِثَرواتٍ سَمَكِيَّةٍ هائلَةٍ.

- نَحْنُ نأكُلُ خُبْزَ الذُّرَةِ والسَّمَكَ, لأنّ غالِبيَّتنا تَشْتَغِلُ بالزِّراعَةِ والفِلاحَةِ وصَيْدِ السَّمَكِ.

كما أنّ أرضنا الطيبةَ تُدرِ عَليْنَا ثَرواتٍ معدَنيَّة متَرَسِّبَةً مِثْلَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والنُّحاسِ والحَديدِ.

وتَزْخَرُ مُدُنُنا بآثارُ عُمْرانيّةٍ تَدُلُّ على حضارَتِنا العَريقَةِ مِنْها (صنعفي) و(مطرا) و(صغيرة) و(نقفة).

وإلى هذه المدينَةِ تعودُ عُمْلَتُنا النَّقْدِيّةُ (النقفة) التي تُعادِلُ دِرْهَمًا ونِصْفا عِنْدَكُمْ في المَغْرِبِ.

- لِماذَا أطْلَقْتُمْ عَلى عَاصِمَتِكُمْ هذا الاسْمَ الجميلَ?

ابْتَسَمَ عليٌّ قائلاً:

- حَقّا, إنّهُ اسْمٌ جميلٌ, والقِصَّةُ تعودُ إلى سَنَةِ 1508 عِنْدَما قاَمَتِ الحَرْبُ بَيْنَ القبائِل التيجريَةِ, لَكِنَّ النِّساءَ أوْقفْنَ الحَرْبَ بَيْنَ الرجالِ, ودَعَوْنَ إلى (أسْمرا) أيّ إلى (اتّحادٍ).

ونِساءُ بلادي يُزَيِّنّ جباهَهُنَّ بِخَيْطٍ, يَدُلُّ على المَرْأَةِ المتَزوِّجَةِ.

أمْضَيْتُ أيَّاما طَيِّبَةً مع عَلِيٍّ. ولَمّا أحْبَبْتُ أنْ أعودَ أغلَقْتُ عَيْنيَّ كِلْتَيْهِما, ثُمَّ فَتَحْتُهُما حينًا, فأَلْفيتُ نَفْسي في الصُّنْدوقِ الحديدي. صَعِدْتُ دَرَجاتِهِ العِشْرينَ, دَرجَةً دَرَجَةً, إذا بي أجِدُ والدَيَّ الحنونَيْنِ يَبْحثانِ عَنِّي:

- ماذا كُنْتُ تَفْعَلُ هُنَا, أيُّها العِفْريتُ الصَّغيرُ?!

سألاني مُسْتغْربينِ, فأجَبْتُهُما مُتَلَعْثِمًا:

- كُنْتُ...أزورُ...الحَسْنا...ءَ...السَّمْرا...ءَ!

بادرَ أبي مُتَعَجِّبًا:

- ماذا تَقول?!

أَرْدَفَتْ أُمِّي:

- مَنْ تكونُ هذه الحَسْناءُ السَّمْراءُ?!

لَمَعَتْ عَيْنايَ, وأنا أجيبُها:

- إريتِرْيا!

ضَحِكَتْ مِنِّي قائلَةً:

- كَفَى مُزاحًا, وهَيَّا تَتَناوَلُ غداءَكَ!

 


 

العربي بن جلون