العصفورةُ الصغيرة التي تنقلُ الأخبارَ

العصفورةُ الصغيرة التي تنقلُ الأخبارَ

رسوم: عبد العال

قالَ شريفٌ لأخيه نور وهما في حديقة منزل

جدّهما (أبو رضوان) يتبادلان سقاية أشجار التفاح فيها:

ـ أتعجَّبُ كيفَ يعرفُ الجدُّ (أبو رضوان) كل ما نفعله داخلَ وخارجَ البيتِ رغم أنه لا يكونُ موجوداً معنا...

قال نور بعد أن تلفّتَ حولَهُ ليتأكدَ أنَّ الجدَّ بعيدٌ:

ـ صحيحٌ. تصوَّرْ يا شريف أنّهُ عرفَ أنني ضيعتُ مصروفي نهارَ الأمسِ, وعرفَ أنني تشاجرتُ مع حسن ابن الجيرانِ.

قال شريف وهو يضغط على أسنانه بحنقٍ:

ـ لا بد وأنَّها تلك العصفورةُ الصغيرةُ الشريرةُ.

عاد نور ليجولَ في الحديقة بعينيه ويسأل أخاه بصوتٍ خفيفٍ:

ـ أتعتقدُ أن العصفورةَ الصغيرةَ موجودةٌ حقاً وتخبر كلّ الآباء والأمهات والأجداد بما يفعله الأولاد?...

رفع شريف كتفيه وابتسمَ ابتسامةً ساخرةً قائلاً:

ـ هيءْ...

سأل نور أخاه من جديد:

ـ ماذا تعني بـ (هيءْ) ?...

قال شريف:

ـ أعني أن الأمرَ واضحٌ.. نعم. هناك عصفورةٌ صغيرةٌ يقولُ عنها الأهل إنها جميلةٌ ولطيفةٌ ويعرفُ الأولادُ أنها شريرةٌ تنقلُ الأخباَرَ وخاصةً الضارةَ منها...

قال نور:

ـ أتمنى لو أمسكُ بها...

قال شريف:

ـ تلك أمنيتي أيضاً.

وبينما الولدان في حديثهما ناداهما الجدُّ من الداخل بصوتِهِ المتهدجِ:

ـ شريف... نور...

رد الولدان معاً:

ـ نعم يا جدي.

قال الجد:

ـ الله ينعم عليكما... أريدُ منكما أن تذهبا إلى السوقِ وتبتاعا لي بعضَ الأغراضِ... وهاكما لائحةٌ بها.

وأخرج الجدّ من جيبه مائة ليرة ناولها لشريف قائلاً:

ـ أعتقدُ أن النقودَ كافيةٌ لشراء ما كلفتُكُما به... هيا...

سارع الولدان إلى لبسِ حذاءيهما بعد أن جففا أقدامَهما المبللةَ بالماءِ وأغلقا صنبورَ المياهِ.

وعند البوابةِ لم ينسَ الجدُّ أن يوصيَهما:

ـ بعد أن تبتاعا الأغراضَ, أسرعا عائدين لأن جدتَكما تريدُ تحضيرَ الغداءِ.

ونبههما:

ـ لا تغيبا أكثرَ من ساعةٍ...

ـ حسناً حسناً...

قال الولدانِ معاً بصوتٍ واحدٍ, وأغلقا البوابةَ الحديديةَ الخضراءَ, وراحا يقفزان فرحينِ لأنَّ الجدَّ أمَّنَهما على الدراهمِ لينفقاها.

وحملا اللائحةَ والنقودَ واتجها نحو السوقِ.

ولم يَطُلِ الوقت حتى ابتاعا كلَّ الأغراضِ, فقال شريف:

ـ لقد ابتعنا كلَّ الأغراض خلال نصف ساعةٍ يا نور, ولدينا متسعٌ من الوقتِ ومزيدٌ من النقودِ...

قال نور فرحاً:

ـ حقاً... وبإمكاننا أن نتفرجَ على الألعابِ المعروضةِ في واجهاتِ المحلاتِ, وأن نتناولَ عصيرَ الجزرِ الطازجِ...

فكّر شريف قليلاً ثم قال:

ـ نعم.. نتفرج على واجهاتِ المحلاتِ بما لا يزيد عن خمسِ دقائقَ, ونشربُ عصير الجزر بما تبقى معنا من نقودٍ فالبندورةُ أرخصُ بكثيرٍ مما قدّر الجدُّ, كذلك الخيارُ... ولي كلُّ الثقةِ أنه يسمح لنا بإنفاقِ فَرْقِ الثمنِ.

قال نور:

ـ طبعاً يا شريف خاصة إذا عرف أننا شربنا عصيرَ الجزرِ الطازجِ ولم نأكل البوظةَ أو الأغذيةَ الضارةَ...

وقفَ الولدانِ عندَ بائعِ عصيرِ الجزرِ وشربا كوبين كبيرينِ من العصيرِ ذي اللونِ الزاهي الجميلِ, ثم وقفا أمام واجهة أحد المحلاتِ لخمسِ دقائقَ, وأمامَ محلٍّ آخرَ لسبعِ دقائقَ, وأمامَ ثالثٍ لعشرِ دقائقَ...

وفجأةً, خطرَ ببالِ شريف أن ينظرَ إلى الساعةِ, فقالَ:

ـ انظر يا نور... لقد مضى على خروجِنا ساعةٌ ونصفُ الساعةِ... أسرع... أسرع...

وركضا ليكسبا الوقتَ, ودخلا البيتَ ومعهَما أكياسُ الأغراضِ وقدّماها للجدّ الذي كان منتظراً والذي نظر إلى ساعته ثم إلى وجهيهما المتعبين, ولاحظَ كم كان تنفسُهما سريعاً:

ـ كنتُ أتوقع عودتَكما قبل الآن...

قال شريف:

ـ تعرف يا جدي أن اختيارَ الخيارِ والبندورةِ يستغرقُ وقتاً...

فقال الجدُّ وكأنه عرفَ ما جرى معهما في السوقِ:

ـ ليس دائماً...

ونظر إلى ما تبقى من النقودِ وسألَ:

ـ وهل هذا ما بقي من المائةَ ليرةٍ?..

قالا معاً:

ـ نعم...

ولم يجسرا أن يخبرا الجدَّ عن عصيرِ الجزرِ مع أنَّهما كانا متأكدينِ أن الجدَّ سيسامحُهما.وبعد ساعةٍ كانَ طعامُ الغداءِ جاهزاً. وبعدَ أن غسل الجميعُ أيديهم, قال الجدُّ:

ـ بسم الله.

وكررا مع جدتهما:

ـ بسم الله.

لاحظ الجد أن الصبيين يأكلان - على غير العادة - من غير شهيةٍ إذ لم يأكلا أيةَ قطعةٍ من الخبزِ, وكان الرزُّ في الصحنينِ لا يكفي عصفوراً صغيراً, أما الخضارُ المطبوخةُ فكانت أقلَّ منَ الرزِّ, ولم تمتدّ الأيدي الصغيرةُ إلى الفاكهةِ على الإطلاقِ.

وسرعان ما نهض الولدان حامدينِ اللهَ, وشاكرَيْنِ الجدةَ على طبخِها الطيبِ, وإن كانت تحسُّ ـ لأول مرة ـ أنهما يجاملانِها, وأنهما لم يحبّا كثيراً ما طبختْ. لم يقُلِ الجدُّ شيئاً لكنه فهمَ الحقيقةَ.

وبعد الغداءِ, نادى حفيديه إلى الحديقةِ وطلبَ منهما أن يجلسا على كرسيينِ صغيرينِ قبالته, وسألهما:

ـ ماذا أكلتما اليوم في السوقِ?

قال نور متظاهراً بالبراءةِ:

ـ ماذا أكلنا?

قالَ الجدُّ:

ـ لا تزيدا على ذنبِكما في التأخيرِ ذنباً آخر وهو الكذبُ, لقد ارتكبتما خطأين وأعتقد أنني أعرفُ كلَّ شيء.

توردت وجنتا الصبيين خجلاً, وتابع الجد:

ـ جلتما تتفرجانِ على ما في واجهات الدكاكينِ, وملأتما بطنيكُما بما لذَّ وطابَ...

قال شريف:

ـ كيف عرفتَ هذا يا جدي?

قال الجدّ:

ـ العصفورةُ الصغيرةُ أخبرتني...

وما إن سمعَ الولدان باسمِ العصفورةِ حتى تمنيا من جديد لو أنهما يمسكانِ بها ويتخلصانِ منها, وراحَ الاثنان يبحثانِ في الفضاءِ عنها ويتساءلان أين يمكن أن تكونَ الآن بعد أن أدت ما تعتقدُ أنهُ لصالحِهما.

لكنَّ شريف سأل جده:

ـ جدي..هلِ العصفورةُ الصغيرةُ حقيقيةٌ?

تنهدَ الجدُّ وارتسمتْ على شفتيه ابتسامةٌ واسعةٌ شجعتِ الصبيينِ على طرحِ مزيدٍ من الأسئلةِ, فقال نور:

ـ نحنُ لم نرَها أبداً, ولم تنقلْ إلينا أي خبرٍ في أي يوم من الأيامِ..

سأل الجدُّ:

ـ صحيحٌ...فالعصفورة الصغيرةُ ليستْ حقيقيةً.

هنا سأل الولدان معاً:

ـ فكيف تعرفُ أنتَ, إذن, كلَّ ما نفعل?

قال الجدّ:

ـ كيف أعرفُ? الأمرُ بسيطٌ. أنتما أخبرتماني كلَّ شيءٍ, فقد قرأته في أعينكما ووجهيكما وسمعته في نبرة صوتيكما وقت وصلتما ووقتَ جلستما إلى الغداءِ, فأنتما إذن كنتما تلك العصفورة...

نظر الولدان كلٌ منهما إلى الآخر مستغربين, ثم نظرا إلى جدِّهما الذي تابع:

ـ لم يكن ضميرُكما مرتاحاً فظهرتما بمظهرِ الجبن فلم تتجاسرا أن تنظرا إليّ ملياً. وعرفت ما فعلتما حالاً عندما دخلتما البيت.

أطرق شريف ونور ثم قالا معاً:

ـ نحن نعتذرُ يا جدي... لن نكذب بعد اليوم. ضحك الجدّ قائلاً:

ـ لقد سامحتُكما... سامحتُكما على ما حاولتما أن تخفياهُ عني وإنْ كانَ بسيطاً, فالكذبةُ الصغيرةُ كما الكذبةُ الكبيرةُ.

نهض نور وشريف وقبلا وجنتي جدهما وهما يعدانه قائلينِ إنهما سيكونان صادقين دائماً, لكنهما فوجئا بعصفورةٍ صغيرةٍ تقتربُ من كتفِ جدهما, وتطيرُ قرب أذنه كأنها توشوشه سراً, وعندما سألاه عما أخبرتهُ عادَ فأكدَ لهما أنهما فقط من ينقلُ له الأخبارَ, أما العصفورةُ الصغيرةُ, فلم تزد على قولها: وِتْ وِتْ وِتْ...

 


 

غريد الشيخ