قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

عبقرية الأستاذ صفر

رسوم: ممدوح طلعت

- الدنيا لا يمكن لها أن تستقيم من دون الصفر.

هكذا ردد الشاب (غياث الدين), وهو يتوصل إلى اكتشافه المهم. فراح يردد:

- يكتسب أي شيء قيمته, من شيء بلا قيمة.

بدت الجملة صعبة, و(غياث الدين) يرددها لتلاميذه الصغار, بعد صلاة المغرب وقف أحد الصغار يقول:

- تعلمنا العد (من واحد إلى عشرة.. واحد.. اثنان..ثلاثة.. أربعة..).

وما أن وصل الصغير إلى رقم عشرة, حتى تساءل:

- ماذا يعني الصفر إذن?

ردد الأستاذ الشاب: يعني أن تعرف قيمة الواحد.. فالواحد شيء قليل قياسًا إلى (اثنين) لكنه ذو قيمة قياسًا إلى اللاشيء. إلى المدعو (صفر).

واستطاع الأستاذ أن يجعل تلاميذه يتخيلون شيئا بلا قيمة, يدعى (صفر), وشيئًا فشيئًا نجح في أن يوصل رسالته إلى التلاميذ الصغار, الذين بدأوا يدركون أهمية الصفر. ومع الدروس المتلاحقة, اكتشفوا أن (الصفر) هذا كيان عبقري, فالعدم يكسب الوجود معنى.. واللاشيء يجعلنا نكتشف قيمة (الشيء).

حدث ذلك في إحدى مدارس مدينة (سمرقند), بشمال بلاد فارس, كان (غياث الدين) قد وصل إلى المدينة لتدريس علوم الرياضيات التي برع فيها وهو صغير السن.

في ذلك اليوم, وبينما هو غارق في النوم أسفل شجرة, جاءه تلاميذه لمشاركته الغداء, أحضر كل منهم ما استطاع تدبيره من طعام, وأيقظوا أستاذهم وطلبوا منه أن يشاركهم الطعام, وسألوه أثناءالطعام عن غرابة اسمه, ومن أين جاء.

ضحك الأستاذ, وقال: اسمي بالكامل غياث الدين جمشيد بن محمود الكاشي, مولود في مدينة (كاشان)الفارسية, كان أبي من علماء الفلك والرياضيات, وكان يردد دومًا أن الأعداد تبدو بشكلها الحالي ناقصة, هناك شيء ما ينقصها.

وأكمل غياث الدين:

- فقط, وأنا في طريقي إلى هذه البلاد,المسماة بلاد ما وراءالنهر, بدأت أفكر, ماذا لو لم يكن النهر موجودا, ما كان أحد أحس بقيمته, ومن هنا جاءتني فكرة (الصفر).

أحس التلاميذ الصغار بالسعادة البالغة, فقد تحول الغداء أسفل الشجرة إلى درس مفيد, وأحس من لم يفهم منهم, من قبل معنى الصفر وأهميته, بأن الصفر هذا صار صديقًا قريبًا له, وأنه لا يمكن الاستغناء عنه.

في ذلك اليوم, فقط, قرر الكاشي أن يبقى في (سمرقند) للأبد, فبعد أن انتهى الغداء أسفل الشجرة, فوجئ بمن يبحث عنه, وعلم أنهم رجال أمير سمرقند أولج بك,وبعد ساعة كان هناك في قصره.

وجاءت الأخبار السعيدة, الواحد وراءالآخر, فها هو الأمير, الذي أحسن استقباله يقول له:

- أيها العالم الشاب, قررت ضمك إلى هيئة العلماء في سمرقند, لكم ما تريدون, شرط أن تتفرغوا للدراسة والبحث.

كان الكاشي قد برع, حتى هذه السن, في تحصيل المزيد من علوم النحو والصرف, والمنطق, والطب, والفلك, التي درس بعضها في (كاشان) مسقط رأسه, لكن لا شك أن تشجيع الأمير (أولج بك) له قد وضع المسئولية أكثر فوق رأسه.

لم يكن (أولج بك) مجرد أمير يحكم (سمرقند), بل هو أيضا عالم في الرياضيات, والفلك وكان قد علم أن الشاب القادم من كاشان قد اكتشف الصفر, وأنه بدأ يضعه في الحسبان, في تجاربه.

وهكذا عرفت (سمرقند) أكثر عصورها ازدهارا.

فالأمير (أولج بك) نفسه واحد من هيئة العلماء, يكتب, ويبتكر, ويؤلف, بل ويقوم معهم بعمل أجهزة رصد جديدة, لمراقبة الأفلاك والنجوم, وكتب ملحوظات عن حركاتها.

وتفرغ الكاشي لتأليف الكتب العلمية, ومنها: (مفتاح الحساب), وهو عبارة عن موسوعة في(علم الرياضيات), بكل أشكالها, في الهندسة, وعلم الأجسام, والحساب والجبر.

وألف أيضا كتابًا في حساب المثلثات باسم (رسالة الوتر والجيب) وفي علم الفلك قدم كتابه (الرسالة الكمالية, وسلم السماء). و(رسالة في درجات الاسطرلاب).

وبدا (الكاشي) وكأنه وهب حياته للعلم, وللأمير (أولج بك), الذي ساعده في اكتشاف الآلة الفلكية المعروفة باسم (طبق المناطق). عندما انتهى الاثنان من تصميم الآلة, قال الأمير:

- نحن أول من يقدر على تحديد المسافة بين الكواكب والأرض.

هز (الكاشي) رأسه, وقال: بعمليات حسابية نستطيع أن نستوعبها يمكن فعل ذلك بسهولة.

في هذه العمليات, أحس (الكاشي) بفائدة (الصفر) الذي توصل إليه, فمن دونه لم يكن يستطيع إجراء تلك العمليات الحسابية, ولا أن يتوصل إلى معرفة المسافات بين القمر والأرض.

وأيضا كم تبعد كواكب أخرى, مثل عطارد, عن الأرض.

وعن طريق (طبق المناطق) تمكن(الكاشي) والأمير من رصد كسوف الشمس فوق سماء (سمرقند) لمدة ثلاثة أعوام متتالية.

وصار المرصد الذي أمر الأمير ببنائه قبله لعلماء الفلك, في كل أنحاءالعالم, يأتون إليه لمراقبة حركة الكواكب في السماء, من خلال ما تمكن علماء المدينة من ابتكاره من أجهزة رصد.

ولأن العمليات الحسابية لرصد الكواكب البعيدة كانت معقدة, فإن الكاشي, نجح في التوصل إلى اختراع رياضي جديد, سهل عليه كل عملياته.

صاح في دهشة: يجب أن نكسرها.

اندهش من حوله, عما يقصد, قال:الأعداد.. الأعداد ليست شيئًا جامدًا, ثابتًا, إنها قابلة لأن تكسر, مثلما تكسر الأحجار.

وهنا ولدت الكسور العشرية لأول مرة في تاريخ العلم.

ذات مساء, سأل الأمير (أولج بك) صديقه العجوز (الكاشي):

- ألا تشعر بالحنين إلى بلادك..كاشان?

راح (الكاشي) يتذكر كيف جاء من هناك منذ أكثر من ستين عاما.. قال:

- هذه البلاد.. أنستني نفسي, وليس بلدي..اسمي (كاشان) لكن وجودي كله هنا, وسوف أظل تحت سمائكم.

وبعد شهور قليلة, في عام 840 هجرية, أي في القرن الخامس عشر الميلادي, وارى التلاميذ أستاذهم في ثرى (سمرقند).

 


 

محمود قاسم