الشيخ التيفاشي

الشيخ التيفاشي

الشيخ التيفاشي
البحث عن لغز الأحجار الكريمة

رسوم: ممدوح طلعت

حين أراد الصغير (أحمد بن يوسف) النصيحة, لم يجد إلا أباه ليسأله, فهو قاضي مدينة (تيفاش) بتونس, قال الأب:

- في السفر سبع فوائد....

واندهش الابن كثيرًا, فأبوه لم يغادر مدينة (تيفاش) قط, ومع ذلك فهو يطلب منه السفر إلى البلاد الأخرى حين يكبر, ومن جديد سأل الابن أباه عن عدم سفره, فجاء الجواب:

- وظيفتي كقاضٍ, أن أحكم بما أنزل الله بالعدل, وأن أبقى في المدينة أتابع قضاياهم.

- لكنني قرأت عن البلدان الأخرى في الكتب, ففي كتب الرحلات فوائد وخبرات من سافر.

ولأن (أحمد بن يوسف التيفاشي), المولود عام 1184 ميلاديًا, من أسرة اشتهرت بالعلم, وتولى أبناؤها مناصب القضاء, فإن الصغير تلقى علوم الفقه الإسلامي على يدي أبيه, وحفظ آلاف الأبيات من قصائد الشعر العربي البليغ. وعندما صار كبيرًا, تولى منصب القضاء.

لكن نصيحة أبيه القديمة رنت في أذنيه, ففي السفر عديد من الفوائد, ولو ظل قاضيًا, لبقي طيلة حياته في (تيفاش) لا يغادرها, مثلما فعل أبوه.

ورغم أنه كان يستقبل المسافرين, والرحالة, دائمًا في بيته, إلا أنه قال يومًا لزوجته:

- روحي تهفو إلى السفر, سأرحل لمقابلة العلماء في أوطانهم.

وقرر أن يرحل مع أسرته إلى الشرق, إلى القاهرة, وبدأت الرحلة, والتقى أثناء سفره أشخاصًا عديدين, في مدن كثيرة, وفي القاهرة, سعى للقاء العلاّمة (موثق الدين البغدادي), الذي قال له:

- حسنا فعلت أن أتيت إلى هنا.

وبقي (التيفاشي) في القاهرة عامًا, ثم هفت روحه إلى السفر من جديد, فقال لزوجته:

- الشام تنتظرنا. فلنستعد للرحيل.

ورغم أن امرأته كانت حاملاً, إلا أنها آمنت برسالة زوجها, وأنه بحاجة إلى المزيد من المعرفة, فرحلا في الأسبوع التالي إلى دمشق, من أجل العثور على المزيد من الكتب المفيدة.

وتعددت رحلات الرجل, واكتشف, وهو يجوب أرض العراق, وفارس, وأرمينيا, أن لكل أرض معادنها التي لا توجد في أي أرض أخرى, وأيضًا أحجارها المتميّزة.

وقرر (أبو العباس), الذي رزق من زوجته بابن زكي هو (العباس), أن يؤلف كتابًا عن المعادن والأحجار التي قام بتجميعها من كل هذه الرحلات.

وشرع في تأليف الكتاب.

لكن الكتاب لم ينته بالسرعة نفسها التي كان يعد لها. فكلما طال الرحيل, تمكن من العثور على المزيد من الأحجار والمعادن الجديدة النادرة, فيضيف فصولاً إلى الكتاب.

وقرر أن يعود إلى تونس من جديد, قائلاً:

- افتقدت أهلي. ومدينتي.

وبقي في (تيفاش) بضع سنوات, تولى خلالها القضاء, لكن روحه لم تتوقف عن الرغبة في السفر, وجمع المزيد من المعادن, والأحجار, والكتب المفيدة.

وفي (تيفاش), استكمل تأليف الكتاب. حتى انتهى منه, وأطلق عليه (أزهار الأفكار في جواهر الأحجار).

وضم الكتاب خواص المعادن, والأحجار الكريمة, ومنافع كل منها للإنسان, وعندما جاء علماء الأندلس إلى المدينة أثنوا عليه كثيرًا, وأخذوا نسخة من الكتاب إلى بلادهم لترجمته والاستفادة منه.

وعرف وفد العلماء المسلمين القادم من الأندلس أن (التيفاشي), كتب العديد من الكتب في مختلف ألوان المعرفة.

ففي علم الموسيقى والغناء عند الشعوب قدم كتابه الشهير (متعة الإسماع في علم الموسيقى), وفيه إشارة أن لكل شعب غناءه وموسيقاه التي تدل على شخصيته وهويته, وفي كتاب (الأرصاد), قدم أول موسوعة متكاملة عن رصد المناخ, والأجواء, عن طريق حركة الريح, ولون الشمس.

وعن أبناء أفريقيا, الملونين, قام (التيفاشي) بتأليف كتاب (الدرة الفائقة في محاسن الأفارقة) الذي يعتبره العلماء بمنزلة أول كتاب علمي عن (علم الإنسان), أو (الأنثروبولوجي) الذي لم يظهر إلى الناس إلا في القرن التاسع عشر.

ذات يوم, قال لامرأته, وقد صارت في الستين من العمر:

- ما رأيك يا أم العباس, لو رحلنا من جديد إلى القاهرة?

كانت نصيحة أبيه لاتزال تؤرقه, وتطارده, أن في السفر المزيد من الفوائد, إلا أن الزوجة أشارت إلى أنها لم تعد تحتمل السفر, وقالت:

- سوف أبقى هنا مع الأحفاد, والأبناء, وسوف أنتظر عودتك.

لكن قلبها راح يهتف, وهو يودعها مسافرًا مرة أخرى إلى القاهرة:

-لم نفترق يوماً, سوف أرحل معك.

وفي القاهرة, استكمل العجوز, الذي بلغ السبعين, وضع المزيد من المؤلفات, ومنها (موسوعة في أخبار النيل وجغرافيته) حول النهر العظيم الذي وهب الحياة لمصر, والمصريين,طوال آلاف السنوات, وفيه تحدث عن الأرض الزراعية على جانبي النهر, وعن المزروعات الشهيرة في وادي النيل.

كما انتهى من كتابه (الشفا في الطب عن المصطفى) وهو كتاب عن الطب النبوي, مستوحى من أحاديث الرسول (عليه الصلاة والسلام) في الاستشفاء.

وفي عام 1253,توفي (أبو العباس), وتم دفنه في باب النصر بالقاهرة, إلى جوار كبار العلماء, ومنهم (ابن خلدون) و(النحوي), و(ابن هشام) وغيرهم.

 


 

محمود قاسم