عشب المحياه.. طارق يوسف

عشب المحياه.. طارق يوسف
        

رسمها: محمود الهندي

          قليلٌ من الكتبِ نالَ مِنْ إقبالِ الناسِ وعنايتهم مَا نالَ «كتاب كليلة ودمنة»، فقدْ تنافستِ الأممُ على اقتنائهِ، وحرصت كلّ أمةٍ على أنْ تنقله إلى لغتها، فليس في لغاتِ العالمِ لغةٌ إلا تُرجِمَ هذا الكتابُ إليها. ففي هذا الكتابِ حكمةُ الهندِ، وجهدُ الفرسِ، ولغةُ العربِ. مما جعله جزءًا من التراثِ الإنسانيِّ الخالدِ. وقدْ قالَ بعضُ المؤرخينَ أن «عبدالله بن المقفع» هوَ الذي وضعَ (ألَّفَ) هذا الكتابِ، في القرنَ الثاني الهجري، التاسع الميلادي... لكن الحقيقةَ أنَّ كليلة ودمنة كتاب هندي تُرجمَ إلى اللغةِ الفارسيةِ. ثم ترجمه «عبدالله بن المقفع» مِن الفارسيةِ إلى العربيةِ. إلا أن «عبدالله بن المقفع» أضافَ إلى أبوابِ الكتابِ الأصليةِ بابًا يصفُ فيهِ كيفَ نُقل الكتابُ مِن الهنديةِ إلى الفارسيةِ، وهي حكايةٌ شديدةُ الطرافةِ.

          تَقولُ الرواياتُ إنّ أحداثَ هذه القصةِ وقعتْ في عهدَ «كسرى أنو شروان»، أفضل ملوك فارس علمًا وحكمًا ورأيًا، وأكثرهم بحثًا عن مكامنِ العلمِ والأدبِ.

          وقد حكم «كسرى أنو شروان» بلادَ الفرسِ ثمانية وأربعين عامًا. وذلك في القرن السادس الميلادي، حيث ماتَ عام 475 ميلادية.

          تقولُ الرواياتُ، إنَّ «برزويه» الحكيم، وكانَ مِن رؤساءِ أطباءِ فارسِ وكبير حكمائها، جاءَ يومًا إلى أنو شروان وقالَ:

          «أيها الملكُ إني قرأتُ في كتابٍ هنديٍ أن في جبالِ الهندِ عشبًا إذا رُكِّبَ منه دواءٌ فنُثرَ على ميتٍ ارتدّ حيًا».

          فلمَا سمعَ أنو شروان ذلك قال:

          «كيف يكونُ لبلادِ الهندِ ذلك دونَ فارس؟... لن أدعَ هذا العشبِ إلا أن أحصل عليه مهما كلّفنِي ذلك من مشقةٍ ومخاطرٍ».

          ثم جهز بروزيه ليسير إلى الهندِ وقالَ لهُ:

          «اذهب واجلب لي هذا العشب، ولكَ في هذا من الأموالِ والهدايا ما يعينكَ على اجتلابِهِ».

          توجّه برزويه الحكيمِ إلى بلادِ الهندِ، تنفيذًا لمشيئةِ كسرى أنو شروان، من أجل إحضار ذلك العشبِ العجيبِ «الذي إذا نُثر على الميتِ ارتدّ حيًا»!.حسبما تقول بذلك بعضُ الكتبِ الهندية.

          وعندما وصلَ إلى الهندِ، قابل ملكهَا، وأعطاهُ الهدايا التي جلبَهَا معهُ من بلادِ فارسِ، فسرُّ ملكُ الهندِ لذلك، وسألهُ عنْ سببِ زيارتِهِ لبلادِهِ. فأخبرهُ برزويه الحكيم، أنهُ جاءَ ليبحثَ عنْ هذا العشبِ العجيبِ الذي قرأَ عنْهُ.

          فأمرَ ملكُ الهندِ بجمعِ علمائهِ، وطلبَ منهمْ أنْ يبحثوا في الجبال عنْ هذا العشبِ، فانتشرَ علماءُ الهندِ في الجبالِ بحثًا عنهُ، وجمعوا كلَّ صنوفِ العشبِ الموجودِ بها، وجرّبوهَا جميعًا، فما أحيا عشب منها ميتًا!!

          فندمَ برزويه الحكيم، وتحيّر وظلَّ يفكر، كيف سيعودُ إلى كسرَى خالي الوفاض؟ وماذا سيقولُ لهُ بعدمَا أنفقَ كل هذه الأموال بلا طائلٍ؟

          ثمّ خطرَ لهُ خاطرٌ... فسألَ العلماءَ:

          «أتعرفونَ في الهندِ عالمًا أعلم منكم جميعًا؟».

          قالوا: «نعم.. هناك عالم يفضلنا علماء، ويكبرنا سنًا.. لكنه يعتزل الناس بأحد الجبال البعيدة».

          فقال لهُمْ برزويه الحكيم:

          «خذوني إليهِ، فقدْ يكون عنده ردَّ الجوابِ عمّا نسألُ»...

          فهلْ سيجدُ برزويه الحكيم مطلبهُ عند هذا العالم المعتزلِ؟

          اصطحبَ علماءُ الهندِ برزويه الحكيمِ إلى قممِ أحد الجبالِ الشاهقةِ المنعزلةِ ببلادِ الهندِ، وعندما وصلَ إلى قمّةِ الجبلِ، وجدَ هناكَ شيخًا عجوزًا يُقيمُ وحيدًا بخيمةٍٍ قديمةٍ متهالكةٍ.

          حياهُ علماءُ الهندِ، وقبّلَ كل عالمٍ منهم جبينه، ثمّ جلسوا أمامهُ جميعًا في أدبٍ وخشوعٍ التلاميذ أمام معلمهم.

          وبادرهُ برزويه الحكيمِ فسألهُ عمّا أتى بلاد الهندِ مِنْ أجله، قال:

          «أيها العالم الجليلٌ، جئتُ بلادكم بحثًا عنْ عشبٍ بالجبالِ يُقالُ إنه إذا نُثرَ على الميتِ ارتدّ حيًا، فهل لك علمٌ بمثلِ هذا العشبِ العجيبِ؟».

          قال لهُ العالمُ:

          «اعرف هذا العشبُ»..

          سرت همهمة بينَ العلماءِ... وقفزَ قلبُ برزويه الحكيم فرحًا لدنوّهِ من نوالِ مقصدِهِ.

          وهتَفَ بالعالمِ المعتزلِ:

          «دُلني عليه أيّها العالمُ الجليلُ».

          قالَ العالمُ:

          «أما الجبالُ التي بها هذا العشبُ، فهي العلومُ.

          وأما الموتى، فهم الجهالُ.

          وأما العشبُ فكتابٌ في خزائنِ ملك الهندِ يحيي موتَى الجهلِ.. اسمه (حكايات كليلة ودمنة)».

          بعدَ أن عرفَ برزويه الحكيم، ما المقصودُ بذلكَ العشبِ الذي يحيي الموتَى، أسرعَ عائدًا إلى ملكِ الهندِ فأخبرهُ بما قالهُ العالمُ المعتزلُ في هذا الشأنِ، ثم أخذَ يرجوهُ أنْ يسمحَ له بالاطلاعِ على كتابِ كليلة ودمنة، فاغتمّ ملك الهندِ وقالَ:

          «ما طلبَ أحدٌ هذا الطلبَ من قبلِ، ولكنا لا نضن على الملكِ أنو شروان بشيءٍ».

          وأمرَ أن يُؤْتى بالكتابِ، وأن يطّلعُ برزويه الحكيمِ عليه، ولكنْ بشرط أن يتعهد بعدمِ نسخِهِ أو كتابة أية عبارة منه، فتعهد برزويه بذلك، وأمرَ الملكُ أن يلازمهُ أحدُ العلماءِ حتى يضمن تنفيذَ برزويه لما تعهد بِهِ.

          أخذ برزويه الحكيم كتابَ حكايات كليلة ودمنة، وبدأ في قراءته، وظلّ على ذلك زمانًا، يصلُ الليلَ بالنهارِ، لا ينام في يومِهِ إلا سويعاتٍ قليلةٍ، يقرأُ الفصلَ من الكتابِ مرةً ومراتٍ، حتى يحفظهُ عن ظهرِ قلبٍ، ثم ينتقلُ إلى الفصلِ التالي، حتى يحفظه عن ظهرِ قلبٍ.

          فلما فرغَ من الكتابِ، أرسلَ إلى كسرى أنو شروان، يعلمهُ بما لقي من التعبِ والعناءِ، وأنه أنجزَ مهمته على خير وجه، فأجابه كسرى يأمرهُ بالعودةِ إليه ساعة يصل إليه ردُّه.

          فتجهزِ برزويه الحكيم، وخرجَ من بلادِ الهندِ قاصدًا بلاد فارس، بعدَ أن شكرَ لملكِ الهندِ حُسن استقبالِهِ وكرمَ وفادته.

          لما عاد برزويه الحكيم إلى بلادِ فارس، دخلَ على كسرى أنو شروان، وقدّمَ له التحيةَ الواجبةَ، فلما رآه كسرى، وقد شحبَ لونه، وتغيّرت سحنتُهُ، وشابَ رأسه، رُقَّ له وقالَ:

          «أبشر أيّها الحكيم المطيع لمولاه، الناصحُ له، ببشرى صالحة، فما صنعته يستوجبُ الشكرَ والتقديرَ منا ومن جميعِ الخاصةِ والعامةِ، وسوف نجزيكَ بأفضلِ مما رجوتَ وأملتَ».

          وأمرهُ أن ينصرفَ سبعةَ أيامٍ ثم يأتيه بعدَ أنْ يكون قد دوّن ما حفظه من كتاب كليلة ودمنة.

          فلمّا كانَ اليومُ الثامنُ، حضرَ برزويه الحكيم إلى مجلسِ كسرى، فوجَدَ عنده العلماءَ والأشرافَ مِنْ أهلِ المملكةِ، فلما اكتملَ الجمعُ، دعا كسرى كبيرَ حُجّابه وأمره أن يقرأَ الكتابَ أمامَ الجميعِ.

          لما فرغَ كبيرُ الحجابِ من قراءةِ الكتابِ، وسمعَ العلماءُ ما فيهِ من العلمِ والأدبِ والأعاجيبِ والحكمِ التي جاءتْ على ألسنِ الحيوانِ والطيرِ، تعجبوا لذلك، وشكروا برزويه الحكيم على ما أتى به إليهم من الأدب والمعرفةِ.

          ثم أن كسرى أمرَ بأن تُفتح خزائنَ الذهبِ والفضةِ لبرزويه، ودعاهُ لأن يأخذ منها ما أحبّ وشاءَ.

          فماذا تظنُ كان ردّ برزويه الحكيم؟

          وكم من الذهبِ والفضةِ أخذ، بعد أن أباحَ لهُ كِسرى أن يأخذَ ما يشاء منها؟

          عندما فتح كسرى أنو شروان خزائنَ المملكةِ أمام برزويه الحكيم، وأمرهُ أن يأخذَ منها ما شاءَ من الذهبِ والفضةِ، قال برزويه لكسرى:

          «أطالَ اللهُ عمرَ مولاي كسرى، وإني إذ أشكرُ لكم يا مولاي حسنَ تقديركم، وسخاء عطائكم، فإني لا حاجة لي إلى شيءٍ من ذلك، لكني أريدُ أن أسألَ الملكَ حاجةً يسيرةً يكونُ لي فيها ذكرٌ وحياةٌ بعد مماتي».

          فقال كسرى:

          «وما تلك الحاجة أيها الحكيم برزويه؟».

          فردّ برزويه قائلاً:

          «أن رأى الملكُ أن يأمر بأنْ يوضعَ لي في رأسِ هذا الكتابِ بابًا باسمي، يُذكرُ به شأني وفعلي ليكونَ لمن بعدي عبرةً وتأديبًا، ويحيا به ذكرى ما حييتُ، وبعدَ مماتي... فإنه أن فُعل ذلك شرّفني وأحيا سيرتي إلى الأبدِ».

 

 

 


 

طارق يوسف