قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

عمر الخيام رجال كثيرون... في شخص واحد

رسوم: ممدوح طلعت

أثار هذا الصغير دهشة كل من حوله، في مدينة «نيسابور» الفارسية.. إنه ينكفئ طيلة ساعات الصباح على عمله، في صناعة الخيام دون أن يتحدث مع من حوله.

كان يفعل شيئًا واحدًا فقط.. إنه كان يغني.. وهو يعمل.

اسمه غريب إنه «غياث الدين عمر» وعلى الرغم من ذلك فإن الجميع كانوا ينادونه باسم آخر، إنه اسم أبيه الذي يعمل مثله في صناعة الخيام.

كان المحيطون به يعرفون أنه يغني، وأن القصائد التي يرددها هي من تأليفه، و«دندنته»، لكن لم يكن أحد يعرف أن هذا الصغير، ينظر إلى الزخرفة الجميلة، بالغة التعقيد، التي يقوم بها في الخيام، على أنها نوع من العمليات الرياضية التي لا يفهمها غيره.

إنه طفل غريب، ينادونه «بالخيام»، أو«الخيامي».

فهو خيامي شاطر، وشاعر بارع، وعاشق متيم بعلوم الرياضة. على الرغم من صغر سنه، فهو واحد من أشهر الأطفال في مدينة «نيسابور». في تلك الحقبة، إنها مدينة كبيرة، وعاصمة لإقليم «خراسان» الذي ولد فيه الكثير من المشاهير المسلمين في كل أفرع العلم والإبداع.

كان عليه أن يرث مهنة أبيه، وأن يحبها.

لكن، كان عليه أيضًا أن يكتشف في تلك الزخارف التي يقوم بتشكيلها في الخيام رؤية مختلفة. قال لأبيه:

- هناك تآلف بين هذه المربعات بعضها بعضًا، ولو وضعنا مربعًا إلى جوار مستطيل، فسيكون الشكل مختلفًا.

لم يفهم الأب «عمر إبراهيم» ما يقوله الابن، لكن «غياث الدين عمر» كان قد رأى العالم من رؤى مغايرة، واكتشف أن الله سبحانه وتعالى، خلق الكون بمنظور هندسي مليء بالإعجاز، وقرر أن يتعمق أكثر في علوم الحساب، والهندسة، والجبر.

وعندما بلغ الخيام الخامسة عشرة من العمر، أي في العام 1063 الميلادي (465 هـ)، كان قد صار أشهر خيام في «نيسابور»، وأبرز شاعر بين كبار الشعراء في المدينة، وأيضًا هو دارس مجتهد لعلوم الرياضيات.

وبدأت مشكلة غير متوقعة بالنسبة للشاب.. فهذه المواهب الخارقة، المتوحدة معًا، قد جعلته يصادق من يكبرونه سنًا.. سواء من الشعراء، أو من قدامى صانعي الخيام، أو من العلماء.

استطاع أن يقيس الزوايا القائمة والمنحنية لأعمدة الخيام، وأن يصنع الارتفاع الأمثل لها.. وفي مجالس الشعراء أسمعهم أبياته الرائعة.

وفي نقاشات العلماء، قال يومًا:

- عندي حل سهل لمشكلات حساب المثلثات العويصة.

واقترح على العلماء أن يستخدم علم الجبر لحل هذه المشكلات.

وقد كان.. فعلاً.

وتمكن من «فك» الكثير من الألغاز العويصة التي واجهت العلماء الأكبر سنًا، وبمن فيهم الأساتذة الذين فتحوا له الآفاق.

كان شخصًا يثير الدهشة فعلاً، فالشاعر شخص رقيق الإحساس يخاطب الناس بقلبه. وعالم الرياضيات يتحدث إلى العالم بعقله.

وبهذا العقل النادر، راح يفكر في الكون من حوله، واكتشف أن الله الخالق العظيم، هو المهندس الذي بنى هذا العالم على أسس هندسية معقدة، وقال:

- سوف يظل البشر آلاف السنين يفتشون عن سر خلق الكون.. ولن يصلوا إلى قشور الجوهر.

كان عقله لا يكف عن البحث في أشياء عديدة.

وعبر عن رأيه في قصائده التي عرفت باسم «رباعيات الخيام»، فيها رؤية، وفلسفة، وإيمان عميق.

وفي العلم توصل إلى معرفة، وحل الكثير من المعادلات الصعبة، وتوصل إلى حساب قيمة الجذر التكعيبي للرقم «2».

وهو أمر لم يصل إليه أحد من قبل بهذه الطريقة الجديدة، سأله صديقه «أبو العز»:

- كيف تجمع بين كل هذه الأشياء معًا؟

رد بكل بساطة:

- الشاعر يساعدني في تصور شكل الجذر التربيعي.. والمخروط الهندسي يبدو أمامي، وأنا أكتب قصيدة عن الكون.

وكان يؤلف كتبه العديدة في الرياضيات بأسلوب الشاعر، ومن هذه الكتب: «رسالة الميزان الجبري»، و«كتاب مشكلات الحساب»، كما لوحظ بعض التعبيرات العلمية والفلسفية في قصائده.

وأثار دهشة الناس حين كتب كتابًا في الفن الذي يحبه، ويمارسه منذ أن كان خيامًا، إنه الغناء والموسيقى، فقد ألف كتابًا يحمل عنوان «كتاب الموسيقى الكبير».

وكان لا يجد حرجًا حين يقول له رجل:

- أخبرنـي، يا من يسمونك «أبو الفتح غياث الدين عمر بن إبراهيم الخيام النيسابوري» هل أنت عدة رجال في رجل واحد؟

أجاب:

- بل يجب أن يكون للرجل الواحد اهتمامات كثيرة، مادام الله أعطاه القدرة على الاستيعاب.

وإلى جوار هذه الكتب العلمية الكثيرة التي تركها «ابن الخيام»، فإن ديوانه المعروف باسم «رباعيات»، قد ترجمه سليم البستاني من الفارسية إلى العربية.

كما ترجمه أيضًا الشاعر أحمد رامي.

لكن حياة «عمر الخيام» المثيرة للدهشة، تحولت إلى رواية ضخمة، كتبها الروائي اللبناني أمين معلوف عام 1989 باسم «سمرقند».

يا له من عدة رجال في واحد..!!

 


 

محمود قاسم