قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

رسوم: ممدوح طلعت

عباس بن فرناس الحلم الذي طار

«سوفَ أطيرُ مثلكَ»، إن شاءَ الله، وإن طالَ الزمنُ..».

وكان الصغيرُ «عباس» يردّدُ أيضًا، وهو ينظرُ إلى الحدأة*، التي تُحلّقُ عاليًا، مع زميلاتِها من الحدآتِ.

نعم، سوفَ أعلو عليكَ في السماءِ، إن شاءَ اللهُ، وإن طالَ الحلمُ.

تدورُ القصةُ في مدينةِ «غرناطة» بالأندلسِ، وفي عام 240 هجرية، والصغير الذي يرقبُ السماءَ عند أطرافِ المدينةِ، لا يكفُّ عن مخاطبةِ الحدآت.

سأله صديقهُ الصغيرُ، في نفسِ سنِّهِ (11 عامًا).

- سوفَ يطولُ بكَ الحلمُ، يا عزيزي عباس، فهذه الطيور صغيرة، أما أنت فضخم الجسمِ ولن تطير يومًا.

ضحكَ «عباس» في سخريةٍ، وقال:

- هذه الطيور تحلق عاليًا بفضل أجنحتها، ترفرفُ... هكذا... ثم تطيرُ.

راحَ «عباس» يفرد ذراعيه، ويحركهما مع الهواء، ثم أغلق عينيه، وتصوّر نفسه يطير، ويحلّق فوقَ الأرضِ، لكن فجأةً، اختلّ توازُنه، وسقطَ فوق الأرضِ.

ضحكَ صديقهُ، وقالَ:

- ولو طالَ الزمنُ... لن تطيرَ...

قال «عباس»: بل، بالأملِ.. سوف أطيرُ...

قالَ الصديقُ: ربما بالأملِ، ولكن أيضًا بالعلمِ... والمحاولةِ.

ورنّت الكلمتان في أذني «عباس»، العلم، والمحاولة... وراح يسألُ من حولِهِ، ما العلم الذي سيجعل الإنسان يطير؟ وكانت الإجابات... لا يوجد ذلك العلم حتى الآن.. لا توجد سوى الحيلُ.

«الحيلُ».

إنه علمٌ من علومِ الرياضياتِ، يقومُ على الافتراضاتِ الوهميةِ، ومن خلال هذه الافتراضات يمكن الوصول إلى الحقيقةِ.

وقرّرَ أن يبحثَ عن جذورِ هذا العلمِ، الذي صارَ اسمه فيما بعد «الهندسةِ»، وبدأت الرحلةُ الشاقةُ، والغريبةُ، أن يحوّل الحلمَ إلى علمٍ.

وفي «غرناطة» بدأ يتلقى مبادئ وأساسياتِ علم الفلكِ، وكانَ أول ما توصّل إليه أن الزمن هو الشيء الثمين حقًا، في حياةِ الإنسانِ.

وأن الحضارات تقومُ على أساس التزاوجِ بين الزمنِ والإنسانِ، فالشمسُ تأتي في موعدِها، ويتولّدُ الزمنُ، والقمرُ يسطعُ في الليلِ، بأشكالِه المتتابعةِ، الهلالِ، والبدرِ، وعندما صارَ شابًا، تمكّن من عمل أول اختراع من نوعِهِ.

إنه «الميقاتةِ».

قبلَ ذلك، كانت هناك أدواتٌ عديدةٌ، مثل الساعةِ الشمسيةِ، لقياسِ الوقتِ، عن طريقِ تحريكِ الرملِ عبر فتحةٍ صغيرةٍ طويلةٍ، بين دورفين منتفخينِ.

أما «الميقاتة»، فهي آلةٌ صغيرةٌ لتحديدِ الوقتِ، لا تعملُ بالرملِ، بل بقوة دفعِ الماءِ، وبدأَ الناسُ يستخدمونَ هذه الآلةِ في قياسِ الوقتِ، بشكلٍ أكثرَ دقةِ، وتحديدًا.

واستفادَ العلماءُ من هذه الآلةِ في قياسِ حركة الكواكبِ في السماءِ.

وكان أهم ما قامت الآلةُ بقياسِهِ سرعةِ البرقِ، ومن هنا جاء المثلُ أو التعبيرُ الشعبي المشهورُ: «أسرع من البرقِ».

وكان «عباس بن فرناس» أسعدَ الناسِ حين تنطلقُ أصوات الرعدِ في السماءِ، ثم ينطلقُ البرقُ فهو بذلك يجدُ الفرصةَ سانحةً لقياسِ سرعةِ البرقِ.

وبالرغمِ من كل الاختراعاتِ التي قدّم لها نماذجَ من الورقِ السميكِ، فإن حلمه القديم ظلّ يراودهُ.

الطيرانُ مثل الحدأة، في أعالي السماءِ.

تصوّر أن الأمر سهلٌ للغايةِ، أن يصنع لنفسِهِ جناحين، يلفّهما حول ذراعيهِ، ثم ينطلق إلى مكانٍ عالٍ، ويحلّقُ من هناك.

وبدأ في تجهيزِ الأجنحةِ، استطاعَ أن يلملمَ ريشَ الطيورِ التي تربيها السيداتُ بعد ذبحِها.

كما استطاعَ أن يجمعَ ريشَ طيور كبيرة، مثل النعام.

وقامَ بلصق الريشَ، وكوّن جناحين كبيرين، يتسمان بأن وزنهما خفيفٌ، وبدأ يجرّب كيف يمكن التحليق.

كان الجناحان يتسّمان أيضًا بأنهما يتحرّكان، حول ساعديهِ حينَ ربطهما عند خصرِهِ، وجرّبهما، وأحسّ أنه قريبٌ جدًا من تحقيق حلمِهِ.

وكانَ عليه اختيارَ المكانِ، إما التل خارج المدينةِ، أو المئذنةِ، واختارَ الأخيرةَ، كي يبرهنُ للناسِ في «غرناطة» أنه سوف ينجحُ.

وصعدَ إلى قمةِ المكانِ، ونظرَ حولَه، ورأى طائرًا إلى جوارِهِ، كأنه سوف ينافسهُ، وراحَ يهشّ عليه، ويقول:

- كم أحسدك لأنك تطير من أسفل لأعلى، ثم من أعلى لأسفلِ، أما أنا... وراحَ يحرّك يديهِ في الهواءِ، وأحسّ أن حلمه يناديه، فأغمضَ عينيه وانطلقَ يقفزُ في الهواءِ، تخيّل نفسَه نِسرًا، هذه المرةِ، وراحَ يحرّك يديه يمينًا ويسارًا، وأحسّ كأنه يرتفعُ، ويعلو، مثل الطائرِ الذي كان إلى جوارِهِ.

لكنه فجأةٌ، أحسّ بجسمِهِ يجذبهُ إلى الأرضِ، وبسرعةٍ غريبةٍ.

لم يفتح عينيه، تصوّر أن هذا هو حال الطيرانِ، طيرانِ الإنسانِ.

ولم يكن يعرفُ أن جاذبية الأرضِ، تشدّ جسمَه الثقيلِ نحو الأرضِ. وأنه سوفَ يدفع حياتَه ضريبةً للعلمِ، والمحاولةِ.

ولم يكن «عباس بن فرناس» الذي أجرى هذه المحاولة في عام 264 هجرية، 878 ميلادية، يعلم انه سوف يفتحُ الآفاقَ طوالَ قرونٍ لتحقيقِ حلم الطيرانِ.
----------------------
* الحدأة: من الطيور الجارحة من فصيلة الصقور تعيش فوق قمم الأشجار العالية والمباني المرتفعة.

 


 

محمود قاسم