أسعد سمكة في الدنيا

أسعد سمكة في الدنيا

رسوم: محسن رفعت

في حياتِنا حكاياتٌ لا يمكن أن ننساها أبدًا.. منها حكاية هدية عيد ميلاد «دودو»، وحكاية «أسعد سمكة في الدنيا».

وتحكي لنا نوسة الحكايةَ من البدايةِ، تقول:

- قبل عيد ميلاد «دودو»، بأسبوعٍ، طلبت مني جدّتي أن أفكرُ معها في الهديةِ التي تفرحُ بها «دودو» غير الكتب، وتكون مفاجأةً!

فكرتُ أنا و«دودو» واتفقنا أن ننتهز الفرصةَ، ونطلبُ أن تكون الهديةَ هي «الكلب» الذي نحلمُ به يعيش معنا في البيتِ، وإذا سألت جدتي ماما، وماما رفضت كالعادة، نطلبُ أي حيوان أو طير نحبّه.

ممكن ببغاء، وممكن نسناس.

والحقيقةُ أنا كنتُ أتمنى فيلا.. فيل حقيقي صغير يعيش معنا.

جدتي سمعت اقتراحاتي باهتمامٍ، ولم أعرفْ ماذا اختارتْ. أخبرتها عن أمنيتي «فيل حقيقي صغير»، اندهشتْ، لكني شعرتُ أنها فرحتْ بالفكرةِ، لأنها سألتني أسئلةً كثيرةً جدًا، لماذا أحبّه؟ وهل فكرت كيفَ يعيشُ معنا، ماذا يأكلُ؟ أين يكبرُ ويلعبُ وينامُ في بيتنِا الصغيرِ؟ أكّدتُ لها أنني فكرت، وأن كل شيء ممكنٌ وسهلٌ.

أسبوعٌ لا أحلمُ إلا بالفيلِ، أتخيّلهُ يوصلني للمدرسةِ، يستحمُّ بخرطومِهِ، ينامُ فوق دولابنا، و«دودو» لا تحلمُ إلا بالنسناس وشقاوته!

لكن في ليلةِ عيد الميلادِ، قالت جدّتي، إن المفاجأةَ هي ثلاث مخلوقات لاهي طيور ولا حيوانات.

هذه الليلةُ نمتُ أحلمُ بالمفاجأةً، أتخيّلُ أنه فيلٌ صغيرٌ، يطيرُ بجناحين، يتكلّم مثلي، ويغنّي معي، وأسألُ نفسي معقول يدخلُ بيتَنا ثلاثة أفيالٍ مرة واحدةً؟

ونامت دودو تحلمُ بالمفاجأةِ، تحلمُ أنه نسناسٌ ذكيٌ يقلّدُ كل حركاتِها، وينافسُها في ألعابِ الكمبيوتر، وتسألُ نفسَها، معقول يدخلُ بيتَنا ثلاثة نسانيسٍ مرةً واحدةً.

وأخيرًا جاءَ الصباحُ، يوم عيد الميلاد 4 يوليو.

خرجنا مع ماما لاختيارِ ألوان الأطباقِ والطراطيرِ وهدايا مسابقات عيد الميلاد، اخترناها بسرعةٍ جدًا.

ورجعنا جريًا لرؤيةِ المفاجأة.

وكانت فعلاً مفاجأةً، كانت حوضًا زجاجيًا كبيرًا، تعومُ به ثلاثُ سمكاتٍ صغيرةٍ رائعةِ. ألوانها مثل الزهورِ، واحدةٌ برتقالي لها ذيلٌ غريبٌ، والثانيةُ فضية، والثالثةُ ملونةً بدرجاتِ لون البحرِ كأنها ترتدي مايوها مخططًا!

فعلاً جدتي هي ملكة المفاجآت، سألناها أسئلةً كثيرةً جدًا عن السمكاتِ الثلاثةِ، قالت إن بيتهم هو البحرُ الأحمرُ، ومدينتهم هي شرم الشيخ، وإنه ممنوعٌ إمساكهم بأيدينا وإخراجهم من المياهِ للفرجةِ عليهم، وإنه ضروريٌ تغيير مياه الحوض، وإطعامهم كلّ يومٍ، وإنهم لن يكبروا إلا قليلاً، لأنهم أسماك زينةٍ.

اشتركنا في اختيارِ أسماء لهم.

الفضيةُ اسمُها مثل لونها «قمر»، والبرتقالية «سيف» مثل شكل ذيلِها، والثالثةُ كان لها اسمٌ هو «ملاك البحرِ» غالبًا لأن ألوانَها مثلُ ألوانِ السماءِ.

فرحنَا جدًا بسمكاتِنا «قمر، وسيف، وملاك..». وقررنا أن نراقبَهم ليلاً ونهارًا، لنعرفَ بأنفسنا إجابات لأسئلةٍ كثيرةٍ تحيّرُنا، كيف ينامون؟ وكيف يتكلمون مع بعضٍ؟ هل هم أولادٌ أم بنات؟ هل يسمعوننا؟ هل يروننا؟

راقبناهم ونجحنًا.. كل يوم نكتشف شيئًا جديدًا.

مثلاً اكتشفنا أن «قمر» هي أكسل سمكة، و«ملاك» هو أنشطُ سمكةٍ، لأن قمر دائمًا تعومُ في قاعِ الحوضِ ببطءٍ، تنتظرُ حتى تسقطُ إليها فتافيت الطعامِ كأنها لا تجوع، أما ملاك، فيعومُ دائمًا بنشاطٍ، خصوصًا لحظة وصولِ الطعامِ، يلتقطهُ من أصابعِنا إلى فمِهِ كأنه لا يشبعُ أبدًا، واندهشنا، كيف يعرفُ أن هذا طعامٌ!

هل يشمّ رائحته؟!

وتأكدنا أنهم يروننا بعيونِهم، وأنهم يسمعون أصواتنا، ولكن أين آذانهم!

وعرفنا أنهم يكونون في حالة نوم، إذا هبطوا إلى القاعِ تمامًا وسكنوا على بطنِهِم أو جنبِهِم بلا حركة، وأنهم ينامون قليلاً في أي ساعة من الليلِ أو النهارِ!

تعلّمنا تغيير مياهَ الحوضِ وحدَنا، وزيّناهُ بقواقعٍ وأعشابٍ، وفي يومٍ ونحن نراقبهم، سألتُ «دودو»: هل يفرح السمك ويحزن مثلنا؟ قالت: أكيد، ولكنها احتارتْ مثلي، لأننا لم نرهم يضحكون أبدًا، ولم نرهم يبكون بدموعٍ، لكن لاحظنا أنهم في الصباحِ مع نورِ الشمسِ، يكونون أكثر نشاطًا وفرحا، كأنهم يرقصونَ في الحوضِ، وسألتني «دودو»: هل تحلم الأسماك فتتمنى الخروج من الحوضِ مرة للفسحةِ واللعبِ معنا؟ وهل تفرح إذا لعبت بالكرة؟

وضعنا لهم كرةً صغيرةً جدًا، خافوا وابتعدوا معًا، ثم بسرعةٍ بدأوا يلعبون.

وأصبحت أمنيتنا هي إما أن يتكلّموا، أو نفهم نحن لغتهم، لنعرفهم ويعرفونا.

فكرنا فكرةً عبقريةً، وهي أن نتخيل ونمثل أننا سمكتان، كانت هذه الطريقةَ الوحيدةَ لنعرف كل شيء عنهم. أنا السمكةُ نوسةُ، وهي السمكة «دودو»، وتخيّلنا أننا نعيشُ في البحرِ الأحمرِ الواسعِ، المياهُ لذيذةٌ، باردةٌ فوق، لكنها دافئةٌ تحت، نزلنا أكثر، نعومُ وسط أنواع وأشكال جميلة وغريبة جدًا من الأسماكِ، أسماك تشبهُ الطيورِ، وأسماك تشبهُ الزهورِ، أشجارٌ بفروعٍ، وأغصانٌ ملونة! قواقعٌ عجيبةٌ، قاع البحرِ يشبهُ الحديقةِ!

الحياةُ في البحرِ الواسعِ أجمل جدًا من السباحةِ في حوضٍ صغيرٍ، نلعبُ ونحنُ نعومُ، نتسابقُ، نبحثُ عن الطعامِ، نهربُ من الأسماكِ الكبيرةِ، ومن شبكةِ الصيادِ، رائحةُ البحرِ قويةٌ جدًا، المياهُ خفيفةٌ، كأن جسمنا بلا وزن!

لم نتصوّر أبدًا أن كل هذه المخلوقاتِ تعيشُ في البحرِ، وسألنا بعض، يا ترى مَن هي أسعد سمكةٍ في البحرِ، وفي الدنيا؟

أنا قلتُ:

- لو أنني سمكةٌ، أكونُ أسعد واحدة في الدنيا لو أن لي قدمين أمشي بهما، أخرجُ من البحرِ إلى الأرضِ، والهواءِ، ألعبُ وأتفرّجُ، وأرجع أعومُ وأنامُ في بيتي البحرِ، وسط عائلتي.

وقالت «دودو»:

- وأنا أكونُ أسعدَ سمكة لو أن لي جناحين، في الصباحِ أطيرُ فوق، فوق الشجرِ والعصافيرِ، أطلعُ عند السحابِ، أسابقُ الطيورَ والطيارات، وأتفرّج على كل المخلوقاتِ، وبالليلِ أرجعُ البحرَ أنام، ولما أكبر، أضع بيضًا كثيرًا في مكانٍ أعرفه، وأرى أولادي وهم يخرجون من البيضِ وأفرحُ بهم جدًا، أصوّرهم صورًا جميلةً، وأختارُ لهم أسماء، أكون أنا ماما، أحضنهم وأطعمهم وأرعاهم، أعلّمهم العومَ والطيرانَ والكلامَ، نعيشُ مع بعض عائلةَ كبيرةً، نعومُ ونطيرُ ونلعبُ وننامُ مع بعضٍ في البحرِ.

قلنا يا سلام لو كان حلمنا يتحقق، ونرى سمكةً حقيقيةً تعومُ وتطيرُ وتتكلّم وتمشي؟ أكيد ستكون أسعدَ سمكة في الدنيا.

فكرتنا عجبتنا، قررنا نرسمُ شكل أسعد سمكة في الدنيا.

الأول احترنا في رسمِ شكل قدميها، نحتاجُ إلى قدمين تعومُ وتمشي بهما، تذكّرنا البطةَ، رأيناها تمشي بقدميها كأنها ترقصُ، وتعومُ بهما كأنها مركبٌ، هائل، نعطي سمكتنا قدمي البطة، ونريد لها جناحين قويين لتطير بهما فوق فوق.

ونعرفُ أن النسرَ هو أقوى طائرٌ، رائعٌ، نعطيها جناحي النسر، يبقى الفمُ، نحتاجُ إلى فم تأكل وتصدر صوتًا به، بعد الفرجةِ على أفواهٍ كثيرةٍ، اخترنا فم البطةِ لأنه لونُ قدميها، وقوي.

ونحنُ نرسمُ، تذكرنا أننا نسينا ملابسها، هل ترتدي ريشًا مثل البطةِ، أم جلدًا عليه قشورٌ شفافةٌ مثل السمكةِ العاديةِ؟!

الحقيقةُ لم نجد إجابةً، فقررنا رسمها أولاً، ثم اختيار فستانها.

يومها جمعتُ كل أنواع الألوانِ، وبدأتُ في رسم أسعد سمكة في الدنيا.

أما «دودو» فجلستُ أمام الكمبيوتر، وأعطته أمرًا أن يرسم لها سمكة بفم وقدمي بطة، وجناحي نسر.

ورأينا أجمل مفاجأة، رسم الكمبيوتر «البطريق».. السمكة الطائرة.

صرخنا ورقصنا من فرحةِ المفاجأةِ، السمكة موجودة في الحقيقةِ، سمكة تمشي وتعومُ وتتكلم مع بعضِها بصوتٍ عالٍ!

طلبنا كل المعلومات عنها، عرفنا فورًا أنها تعيشُ في المناطقِ الباردةِ من العالمِ، وأنها تعيشُ كما تمنينا، في عائلةٍ كبيرةٍ، ترعى أولادَها، ويعرفون أنها ماما، تعلمهم الأكل، والمشي، والعومِ.

تنادي عليهم بصوتٍ ويعرفونها، وآخر مفاجأة، هي أنها ترتدي ريشًا صغيرًا جدًا وكثيفًا كأنه فرو، على كل جسمها ما عدا فمها، وقدميها.

وتبقى سؤال مهمٌ، هل تطيرُ أسعد سمكة في الدنيا؟ هل يطيرُ «البطريق»؟

بسرعة أجابَ الكمبيوترُ، قال: لا.. البنجوين طائرٌ لا يطيرُ، لأن جناحيه صغيران، وجسمه ثقيلُ الوزنِ.

خسارة، لو كان البطريق خفيف الوزنِ، كان يطيرُ فوق، ويصبح أسعدَ سمكة طائرة في الدنيا.

بعد شهر من عيدِ الميلادِ، اخترنا أن نمضي إجازةَ الصيفِ في مدينةِ شرمِ الشيخِ.

ونحن نستعدُّ للرحلةِ بأدواتِ السباحةِ والغطسِ، تمنينا أن نأخذَ سمكاتنا معنا لزيارةِ بلدِهم والسباحة في بيتِهم البحر المالح.

وفجأةَ تذكّرنا سؤالاً حيّرنا ولم نعرف إجابته.... وهو، هل أسماك الزينةِ لا تكبر لأنها تعيشُ محبوسةً في حوضٍ صغيرٍ، وبعيدًا عن عائلتها؟

جدتي قالت هذا احتمالٌ، ممكنٌ، لكن نحتاج إلى أن نتأكد.

وكيف نتأكد؟هذه المرة تخيّلنا أننا سمكتان بنتان، نشبهُ عروسةَ البحرِ، نعيشُ في شبكةٍ في قاعِ البحرِ وحدنا، بعيدًا عن عائلتنا، وأن كل الأسماك تأتي للفرجةِ علينا، طبعًا لن نفرحَ، ولن نكبرَ! لهذا السبب قررنا إعادة السمكات الثلاثة لبيتهم، إلى البحرِ الأحمرِ.

حملنا السمكات في الطائرةِ إلى شرمِ الشيخِ في علبةٍ كبيرةٍ نصفها مملوء ماء، وصلنا، وبعد نصف ساعة كنا نقفُ أمامَ البحرِ الواسعِ، المياهُ دافئةٌ تحت أقدامنا، رائحتها قويةً جدًا، ودّعنا سمكاتنا، وأطلقنا سراحها، بمجرد دخولها المياهَ، وامتلاء خياشيمها بالماءِ المالحِ، ماء البيتِ اللذيذِ، عامت بسرعة، سمع كلُّ الشاطئِ صوتَ ضحكاتِها.

وأجمل رسمةٍ تراها في حجرةِ «نوسة» و«دودو» هي صورة «أسعد سمكة في الدنيا» السمكة الطائرة..! وبجوارها صورة لثلاثِ سمكاتٍ صغيراتٍ، «قمر وسيف وملاك».

ولأول مرة تحدد «نوسة» المفاجأةَ التي تنتظرها في عيدِ ميلادِها القادمِ، في 15 سبتمبر، وهي، إما زيارة «نيوزيلاند» لشراءِ بطريق، أو فيلٌ صغيرٌ يعيشُ معها في البيتِ.

 

 


 

منى ثابت