قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

رسوم: ممدوح طلعت

ابن سيده المرسي
الطفل الذي يعرف كل شيء

حدث ذلك في العام 408 الهجري.

المكان: الأندلس، حيث الجنة الخضراء، والآفاق الواسعة، والعرب يقيمون حضارة قوامها العقيدة، تؤازرها الفلسفة والعلم.

في ذلك العام، بلغ «عليّ بن اسماعيل» عامه العاشر، اعتبره زملاؤه الصغار في المدرسة القرآنية معجزة، فهو يحفظ كل شيء تقع عليه عيناه، وبالرغم من صغر سنه، فإنه استوعب الكثير من المعارف، خاصة في العلوم والفلك، والطب والنحو.

وأطلق عليه زملاؤه اسم «الطفل الذي يعرف كل شيء».

واستفاد «علي بن اسماعيل» من كل هذه الموهبة، التي منحها الله إياه، فراح يدوّن ملخصات عن كل معلومة يحصل عليها.

ورآه زملاؤه، وهو يلملم أكبر عدد من الوريقات، وقالوا إنه «الطفل الذي يلملم كل شيء»، وكم أسعدته هذه التسمية، ويقول:

- يوما ما... سوف أستفيد مما أقوم بلمه.

وعندما ودّع «علي» زمن الطفولة، أحسّ أن موهبته في الحفظ قد بدأت تضعف بشكل ملحوظ، وأن قدرته على أن يتذكر الصفحة التي تقع عيناه عليها، قد ضعفت، كان قبل ذلك أشبه بجهاز تصوير، أو «اسكانر» معاصر، لا ينسى أي شيء.

وفي المدرسة كان هو الأول، دون أن يكون هناك «ثان».

وأمام المشكلة الجديدة، مشكلة ضعف الاستيعاب، قرر «علي» أن يفعل شيئًا وأن يدوّن كل ما يهمه، وأن يرتّب أوراقه حسب الترتيب الهجائي.

سأله صديق له:

- ازدحمت غرفتك بالأوراق، فماذا ستفعل بها؟

رد أنها مخصصة بالتأكيد للإفادة منها ذات يوم من الأيام.

وتراكمت الأوراق، فوق بعضها، لكن كل من يراها، يحس أنه أمام جبل منسق من المعلومات، خاصة في النحو، وفي العلوم.

وأطلق عليه أصدقاؤه اسم «النحوي» لشدة إعجابه بالنحو، وذات يوم، قرر أن يعيد كتابة كل هذه المعلومات، حسب الترتيب الهجائي، وذلك كي يخرج كتابه الضخم «المخصص... إلى الناس».

تنهد حين استكمل الكتاب، وقال لزوجته التي أنجبت له ابنه الحسن:

- خصصت حياتي كلها من أجل هذا الكتاب، وليت الناس تستفيد منه.

وصدر الكتاب منسوخًا في أكثر من نسخة، إنه كتاب موسوعي، يضم معلومات وفيرة في النحو، والعلوم الطبيعية، وأيضًا علم الفلك، وعلم النبات، وعلوم الحيوان، ثم العلوم التطبيقية في الطب والزراعة.

قالت الزوجة، التي ساعدت زوجها في النسخ:

- سوف أفخر بهذه الأجزاء السبعة عشر، فخري بك يا أبو إسماعيل.

وعرف أبو الحسن علي بن إسماعيل النحوي، باسم جديد هو «ابن سيده المرسي» وسمع الخليفة عن الكتاب، فطلب إحضار نسخة له.

واندهش الخليفة، وهو يشاهد الكتاب، وسأل صاحبه:

- كيف يضم كتاب لغوي كل هذه المعارف من العلوم...؟

رد «ابن سيده المرسي»: هذا كتاب يحوي كل شيء، والعرب برعوا في العلوم، ويجب أن يُقدم كل هذا الكم من المعرفة.

تكلم الكاتب في مؤلفه الشهير، الضخم، عن الإنسان، والحمل، والولادة، والرضاعة والفطام، وأيضًا عن أعضاء الإنسان المختلفة، ووظائف كل منها، كما تكلم في الجزء الثالث عن الأمراض التي تصيب هذه الأعضاء، مثل كسر العظام، والزكام، والسل، والبرص، وآلام البطن.

كان الكتاب في حد ذاته، أشبه بأول موسوعة علمية يعرفها البشر، لكن «ابن سيده المرسي» أراد أن يقدم الكتاب متضمنًا كل أنواع المعرفة، وكان تركيزه أكثر في العلم، قال له أحد أساتذته:

- لو قمت بعمل موسوعة علمية فقط، لكانت أول موسوعة متخصصة في التاريخ.

بكل سعادة، يرد الرجل الذي كان قد بلغ الأربعين:

- وهكذا فعلت، كتابي هو الأول الذي يضم كل شيء، ويمكن أن تراه كما تشاء.

كان الجزء الأول يتضمن العلوم، وأيضًا الجزء الثاني حسب الترتيب الهجائي، أما الأجزاء التالية، فكانت للنحو، والتاريخ والشخصيات.

وبالفعل، فإن الجزأين الأول والثاني كانا بمنزلة موسوعة علمية متخصصة، ليس لها مثيل، فيها كل معلومات عصره العلمية عن كل ما يهم الناس.

وفي العام 458 الهجري لقي العالم «ابن سيده المرسي» ربه، وقد ترك في الأرض ما ينفع الناس جميعًا.

 


 

محمود قاسم