السمرقندي.. مريض بالوهم.. والمانخوليا

السمرقندي.. مريض بالوهم.. والمانخوليا

رسم: ممدوح طلعت

سأل الصغير أباه:

- هل يوجد في العالم.. عبقري بهذه الصفات؟

قال الأب «عمر» لابنه نجيب:

- نعم، حتى الآن لم تنجب بخارى رجلاً له مثل عبقرية «ابن سينا» الذي تفخر به بخارى بأجمعها.

دار الحديث، في عام 676هـ في سمرقند، بأعلى منطقة في العالم، في تلك السنوات، كان الصغير ««نجيب» قد سمع قصة عجيبة مع أبيه عن عالم جليل اسمه «ابن سينا»، عاش بين عامي 173 و428هـ وأنه ألف كتبا مهمة، مثل «القانون في الطب»، «الشفاء»، قال الصغير:

- أبي.. كم أتمنى قراءة هذه الأعمال.

رد الأب: هذه أعمال لا تناسب الصغار. عندما تكبر، اقرأها، وستستفيد منها، مثلما استفاد العلماء، والأطباء في كل أقطارالدنيا.

وأصر الصغير على طلبه، وجاءه الأب بنسخة، منسوخة يدويًا من كتاب «القانون» الذي كان قد ترجم إلى اللغة اللاتينية، وذاعت شهرته بين أطباء العالم.

وعندما حاول الصغير أن يقرأ الكتاب، فوجئ بصعوبته، وأن هناك مصطلحات عليه أن يفهمها، مثل «الأقربازين»، لذا قرر أن يدرس الطب، والعلوم بشكل عام.

كان «نجيب بن عمر» قد قرر أن يكون الطب هو حياته، فانضم إلى مدارس العلم في مدينة سمرقند، ورحل إلى بغداد، والقاهرة، ودمشق، واستطاع أن يلم بالمزيد من الكتب الطبية المشهورة خاصة مؤلفات «ابن سينا» وأبدى دهشته حين قرأ كتاب المعالجات البقراطية للطبري.

صار الصغير شابًا، ولم يتوقف عن استيعاب العلم، وكان دائم الرجوع إلى أبيه، وقال له:

- أفادني السفر في أنني أحضرت المزيد من الكتب، لم أحملها فقط فوق الدواب التي نقلتني في سفري، بل حفظتها عن ظهر قلب.

سأله أبوه:

- هل قرأت كتاب «كامل الصناعة» لعلي بن العباس المجوسي؟

رد الابن: اكتشفت يا أبي أنني كلما انتهيت من قراءة كتاب، وجدت هناك عشرات بل مئات الكتب التي لم أقرأها.

وصارت حياته بمنزلة تحصيل للعلم، قديمه وحديثه، وأحس أنه يستفيد كثيرًا من النقاش والجدل، مع أقرانه، ولكي تكون حجته أقوى، لم يتوقف لحظة عن القراءة.. إلى أن قال له أبوه:

- حاول أن تفيد الناس بما قرأت، ساعد في علاجهم.

وذاعت شهرة «نجيب بن عمر» في البلاد باسم «السمرقندي» نسبة إلى مكان مولده، واستطاع أن يقسم وقته، بين علاج المرضى، وتحصيل المزيد من المعرفة العلمية، واكتشف شيئًا بالغ الأهمية.

اكتشف أن العلوم الشفاهية شيء يختلف عن الممارسة العملية.

وكان يقصد بالعلوم الشفاهية، تلك التي استطاع تحصيلها من الكتب، والمراجع، دون أن يمارسها في الواقع، فصار عليه أن يختار الدواء الأنسب للناس. ومن هنا جاءت فكرة كتابه المهم «الأسباب والعلامات» الذي تحدث فيه عن أسباب الأمراض، وعلامات كل مرض على صاحبه وأيضًا طرق علاج كل مرض. وعندما قرأ الناس الكتاب، أصابهم الوهم، وصار كل شخص، يحس أن لديه علامات بعينها، أنه مريض، وبدا الوهم مرضًا حقيقيًا، ومن هنا جاء الكتاب الثاني «الأقربازين» الذي يشرح فيه طرق العلاج من الأمراض.

وصارت كتبه منسوخة في كل البيوت، وقال عنه العلماء الذين تتلمذوا على يديه:

- لم نعرف عالمًا بهذه الجودة، سوى «السمرقندي».

وذاعت كتاباته عن الجنون، أو ما كان يسمى في تلك الفترة بالمانخوليا، وقيل إنه أعظم ما كتب عن هذا المرض، طوال قرون عديدة، وأفضل من وصف الداء، والدواء.

حتى جاء اليوم العظيم.

يوم أن هبّت على سمرقند، جحافل الظلام، متمثلة في جيوش التتار، الذين اخترقوا البلاد، وأشاعوا الدمار، والخراب، ودخلوا سمرقند، فقتلوا العلماء، وأصحاب الفكر، والفلاسفة.

وكان «السمرقندي» واحدًا من الذين دفعوا حياتهم في هذه الغزوات المظلمة.. وهو لايزال في سن العطاء.

 


 

محمود قاسم