قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

أبو زكريا بن ماساويه
الرجل الذي يأكل قبل الخليفة

رسوم: ممدوح طلعت

سأل الصغير أباه:

- أبي... ماذا يعني أن للإنسان ألسنة عدة؟

كان الصغير «يوحنا» ينظر إلى صفحة المياه، ويفتح فمه، ويرى لسانًا واحدًا، وكان متأكذًا من أن كل إنسان يقابله له لسان واحد، ومن هنا جاء السؤال.

ضحك الأب، وعرف المعنى، فابنه البالغ من العمر عشر سنوات، في عام 173 هـ (789 م) كثير الأسئلة، ويود أن يعرف الإجابات.

ففي المدينة التي تعيش بها أسرة «يوحنا بن ماساويه»، وهي مدينة «جنديسابور» شمال بلاد فارس، يتكلم الناس أكثر من لغة، باعتبارها ملتقى التجار الذين يأتون من كل أنحاء البلاد... العرب، والفرس، والتتار، والقوزاق.

قال الأب: اللسان يعني اللغة، وحين يتحدث المرء لغة، فإنه يتكلمها بلسانه. وعرف الابن المعنى، كما عرف في تلك اللحظة أن أباه «ماساويه» سوف يسافر إلى مدينة بغداد، بناء على طلب من الخليفة هارون الرشيد..

كان وقع الخبر على الصغير عظيمًا...

فكم سمع عن مدينة بغداد، وعن الخليفة الشهير «هارون الرشيد»، وكان سعيدًا لأنه عرف أن أباه طبيب العيون الشهير في مدينة «جنديسابور» قد وصلت شهرته إلى الخليفة، وأنه طلبه بالاسم.

وبالفعل...

صار «ماساويه» طبيبًا للخليفة..

وفي بغداد، نشأ «يوحنا»، وتفتحت عيناه على كل ما هو مدهش، فالناس هنا يتكلمون لغات عدة، وكان عليه أن يتقن اللغة العربية.. وكان القرآن الكريم خير وسيلة لإتقان اللغة العربية.

وعندما قرأ القرآن الكريم وتمعّن به انشرح قلبه... وأبلغ أباه بما أحسّ به. قال الأب:

- هذه هي مشاعري نفسها... لذا سوف أشهر إسلامي، حبًا، وقناعة.

وصارت أسرة «ماساويه»، طبيب العيون مسلمة، لكن الأب رحل عن العالم، وترك ابنه يحمل المسئولية... وصار على «يحيى»، بعد أن غير اسمه، أن يستكمل مسيرة أبيه، في أن يستوعـب الطب، كي يكون المستشار الطبي للخليفة.

وأحسّ الخليفة أن الشاب الصغير قد تفوق على أبيه، فأسند إليه رئاسة أول بيمارستان (مستشفى) تم إنشاؤه في بغداد.

ورغم مشاعر الغيرة التي أحس بها من حوله، وهو الشاب الصغير، فإن «يحيى» حقق الكثير من الإنجازات، اقترح على الخليفة أن يقوم بترجمة العديد من كتب الطب الأجنبية، كي يستفيد علماء الطب المسلمون، في الدولة العباسية.

ووافق الخليفة على طلبه.

وكان ذلك فاتحة خير، لتوزيع كتب الطب المترجمة إلى اللغة العربية على كل المكتبات الإسلامية في أنحاء العالم القديم، في أوائل القرن الثالث الهجري. وصدر مرسوم الخليفة في عام 224 هـ، كالتالي:

«يُعين أبو زكريا يحيى بن ماساويه، مسئولاً عن خزائن الكتب في كل أنحاء الدولة».

وأثار المرسوم دهشة الذين يشعرون بالغيرة من نجاح «يحيى»، وتقدمه الملحوظ، إلا أن ما أثار الدهشة أكثر أن الخليفة، قال له ذات يوم:

- اسمع أيها الطبيب، سوف تكون مسئولاً عن كل ما أتناوله من طعام وشراب.

سرعان ما فهم الطبيب السبب، فقد علم أن الخليفة «هارون الرشيد»، صار يخاف أن يدس له أحد خصومه السم في الطعام.

وصار «يحيى» هو المسئول الأول عن سلامة طعام الخليفة، يفحصه، ويتناول منه، ويطمئن على المقادير المناسبة، وقال أحد الأمراء مازحًا:

- إنه الشخص الوحيد الذي يأكل قبل الخليفة... وقبلنا جميعًا.

وأحس «يحيى» بالسعادة لهذا الشرف، وكان بطبعه أكولاً، وذواقًا، لذا، فإن الخليفة المأمون، احتفظ به مستشارًا طبيًا له، وسأله ذات يوم:

- تمن عليّ يا «ابن ماساويه»... أعطك ما تطلب.

وكان الطلب غريبًا، فالطبيب يود لو تم إنشاء بيت الحكمة للتشجيع على التأليف، والإضافة العلمية.

ووافق «الخليفة المأمون»، ابن الرشيد، وبدأ الطبيب العالم في التفرغ لتأليف الكتب وترجمتها.

وتفرغ الرجل في السنوات العشر الأخيرة من حياته، للتأليف.

انتهى من تأليف كتاب «الدواء»، وكتاب «مجسة العروق»، وكتاب «علاج النساء».

ولم يتوقف عن الترجمة، لكنه أحسّ بلذة الإضافة، فصدر له كتاب «النوادر الطبية».

وكان يتم إرسال نسخ من هذه الكتب إلى خزائن الكتب في كل أنحاء البلاد، وإلى مجلسه العلمي الأسبوعي كان يأتي التلاميذ، كي يتعلموا على يديه، ويقرأوا عليه من صفحات الكتب، التي ألفها عن أمراض العيون، والجذام، والإسهال، والصداع.

وفي آخر حياته، غادر بغداد، واستقر به المقام في سامراء.

وبين الحين والآخر، يأتيه رسول من الخليفة، يسأله استشارة طبية، ثم يعود، ويخبر الخليفة أن «أبوزكريا»، الذي أقعده المرض في سامراء، لا يكف عن تعليم الآخرين.

ومات «يحيى» في عام 243 هـ.

 


 

محمود قاسم