كابوس

كابوس

قصة
رسوم: فاروق الجندي

قدمت سارةُ وندى بحثيهما للمعلمة وكلٌ منهما تأملُ أن يكون بحثُها هو الفائَز خاصة أن كلاً منهما ترى أنها قد تعبت وعملت كثيرًا على إنجازه، وفي الحصةِ المقررة فوجئت سارةُ بالمعلمة تمدح بحثَ ندى وتعلن فوزها، تألمت سارة كثيراً، كانت تظن أن المعلمةَ ستلاحظ الفرق بين البحثين، فسارةُ كانت قد استعانت بجهدها الشخصي، إذ كتبت صفحات البحث الخمس بخط يدها، وأمضت الليل بين الكتب والمجلات والصحف تبحثُ عن الصورِ المناسبة لموضوع بحثها كما أنها قد زينته بالريش والزهور والنباتات المجففة التي كتبت عنها، أما ندى فما الذي قد تعبت فيه؟! كان بحثُها جاهزًا من تلك البحوث التي تجهزها وتطبعها المكتباتُ، ما تعبت به ندى هو المبلغُ الكبيرُ من المال الذي لا شك دفعه والدها لشراء ذلك البحث الجاهز!

تساقطت الدموع من عيني سارة، وأحست بداخلها بمشاعر لم تعرف كيف تعبّر عنها أو تصفها، غاب صوتُ المعلمةِ والتلميذات عن سمعها وشيئًا فشيئًا اختفى الفصلُ بأدراجه وكراسيه وسبورته ووجدت سارةُ نفسها تجري في قصر كبير يمتلئ بالغرف الواسعة المزخرفة جدرانُها وتمتلئ بقطع الأثاثِ الفاخر، توقفت عند إحدى شرفات القصرِ تنظر إلى الماءِ النابعِ من بين الصخور ويتخلل حديقة القصر، سمعت سارة بعض الهمسات والكلمات فأطلت برأسها إلى الأسفلِ، وإذا بثلاثِ فتياتٍ يتحدثن بغيظٍ وغضبٍ، قالت الأولى: لقد بذلت جهدي في خدمة أهلِ القصر وتعبتُ في ذلك كثيرًا فماذا كان أجري في نهاية اليوم؟ كان رغيف خبزٍ واحدًا هل تصدقان ذلك؟! يا للظلم!!

وقالت الفتاة الثانية: عملت في محل لبيع التحف وحين أسقط ابن صاحب المحل إحدى التحف الثمينة جرى بعيدا فاتهمني صاحب العمل بفعل ذلك وقام بطردي من المحل ولم يدفع أجري ولم يتحقق من الأمر.. آه يا للظلم!

وقالت الثالثة : دخلت في مسابقة تصميم أحلى منديلٍ مطرز واشتريت قطعةَ قماش ورسمت عليها رسمًا جميلاً وسهرت الليلَ أطرزها بالخيوطِ والخرز، ثم ماذا؟ فازت في المسابقة فتاة استخدمت التطريزَ الجاهزَ وثبتته على منديلها! يا للظلم!

هتفت سارة بالفتيات الثلاث اللواتي رفعن رؤوسهن ينظرن إليها وسألت: ما هو هذا الظلم الذي تتحدثن عنه أنا لم أره أو أعرفه قبلا؟!

نظرت الفتيات دهشات بعضهن إلى بعض وقلن لها: أعطنا هذه القلادةَ الذهبيةَ التي تزين صدرك وسيأتي الليلةَ الظلمُ لزيارتك!

خلعت سارة قلادتها وناولتها الفتيات الثلاث وعند المساء جلست في غرفتها تنتظر زيارة الظلم لها، وما هي إلا لحظات حتى دوت أصواتٌ مرعبةٌ وهبت ريحٌ عاتيةٌ فتحت النافذة بقوة شديدة، وهجم كائن أسود يشبه ظلام الليل على سارة فصرخت واستغاثت لكن لم يسمعها أحدٌ، حاولت أن تنفلت من قبضته لكنه كان يشبه الهلام أو الصلصالَ، في كل لحظة يتحول إلى شكلٍ آخر ثم قهقه حتى صم أذنيها وهو يقول : رغبت أن تريني يا سارة، هذا هو أنا الظلم، لتري ما سأفعل بك.

حمل الظلمُ سارة وانطلق بها بعيدًا عن القصر، وألقى بها أمام أحد المنازلِ التي كان أهلها يحتفلون بزفافِ ولدهم، رأى أهلُ العرس سارةَ فدعوها لمشاركتهم، فرحت سارة لتخلصها من قبضة الظلم ولبت الدعوة وشاركت أهل العرسِ في التصفيق والغناء والرقصِ وتناول الطعام حتى نام الجميعُ، عندئذ جاء الظلم ليوقظَ سارة من نومها فارتعبت وهي تراه وقد مزق ملابسَ أهلِ العرسِ بمقصه الكبير ولون وجوههم بأصباغ سوداء ووضع المقص وعلبة الصبغ في يدها، استيقظ أهل العرس وصدموا بما حدث لهم ونظروا إلى سارة فتمتمت بخوف: لست أنا من فعل ذلك، إنه الظلم صدقوني.

لكن أهل العرس جروا نحوها وأوسعوها ضربًا حتى جاء الظلمُ وسحبها من يدها وألقى بها أمام منزل آخر، كان أهل المنزل في حزنٍ عميقٍ، لقد توفي الأب وترك أهله يذرفون الدموعَ على فراقه، انخرطت سارةُ في بكاء شديد لما حدث لها من الظلم فظن أهل المنزل أنها تشاركهم في حزنهم على أبيهِم فدعوها للمبيت عندهم، وافقت سارة على دعوتهم وأمضت الليلة عندهم عندها جاء الظلم من جديد وأيقظها وذهلت سارة إذ رأته يلون وجوه النساءِ والرجال بألوان الزينة ويلطخ أيديهم بالحناء، استيقظ أهلُ المنزل ورأوا علب الألوان والحناء بيد سارة فغضبوا منها وظنوا أنها تهزأ منهم ومن حزنهم فهجموا عليها يضربونها ويشتمونها وهي تبكي وتردد: لا تظلموني أنا لم أفعل ذلك، إنه الظلم..

وجاء الظلمُ وسحبها من يدها وألقى بها أمامَ منزلٍ ثالثٍ، خرج صاحبُ المنزلِ ورآها تجلس حزينة قرب منزله فدعاها للدخول وأطعمها وسألها إن كانت ترغب بالعملِ في منزله فزوجته مريضةٌ بعد أن أنجبت طفلاً ولا تستطيع الاعتناء به كثيرا، وافقت سارة على العمل وكانت سعيدة لأنه كان عليها الاهتمامُ بالطفلِ الصغير وإطعامه وتهدئته حتى لا يزعج أمه المريضة، عند المساءِ تسلل الظلمُ إلى المنزل وأيقظها وفاجأها، وهو يهوي على جسد الطفلِ الصغير بالضرب والطفلُ يصيح حتى استيقظ الأبُ فزعًا على صراخ طفله ووجده بين يدي سارة وقد احمر وازرق جلده من أثر الضرب فصاح بها: ما الذي فعلته بطفلي؟!

لم تجب سارة، بل كانت مذهولة من قسوة الظلم الذي تعرضت له وجلست في ركن الغرفة تبكي وتنتحب وتردد: إنه الظلمُ من فعل ذلك، لست أنا صدقني يا سيدي.

هدأ الأبُ طفلَه وكتم غضبه، ورفعت سارة رأسها وحكت للرجل قصتها منذ أن دخلت ذلك القصر وطلبت إليه أن ينقذها من الظلم ومما يحدث لها بسببه من مواقفَ مؤذية ومؤلمةٍ.

تعاطف الرجلُ مع سارة وشعر بأنها فعلاً تعاني من مشكلة ما وفكر في خطة ينقذها بها من سطوة الظلم واختبأ أسفلَ سريرها وترك يده مرفوعة إلى الأعلى وطلب إليها أن تهز يده إذا رأت الظلم وقد حضر ليحملها إلى مكان آخر، جاء الظلمُ وهزت سارة يد الرجل فهب ليدافع عنها، كان الرجلُ يضرب في كل مكان في الغرفة لكن الظلم كان هلامياً ولم يستقر في مكان واحد بالغرفة، تشبثت سارة بيد الرجل وأخذا يصارعانه بكل قوتهما.

ـ انهضي يا سارة، إن أَنفاسك عاليةً، هل رأيت كابوسًا؟

ألقت سارة بنفسها في حضن أمها وقد لهثت أنفاسُها وهمست: هل ستظلمني المعلمةُ وتعطي بحثي درجةً أقل من بحث ندى؟

وأجابت الأمُ وهي تمسح عليها: لقد بذلت جهدك يا سارة وعليك أن تكوني سعيدةً بذلك وإذا شعرت بأنك تعرضت لظلمٍ ما فدافعي عن حقك ولا تستسلمي.

اطمأنت سارةُ وغابت في نومها من جديد.

 


 

لطيفة بطي