بيتنا الأرض.. د. محمد المخزنجي

بيتنا الأرض.. د. محمد المخزنجي

مفاجأة جميلة.. لكن مخيفة!

تنقَّل الخبر من بيت إلى بيت ومن مكان إلى مكان حتى غطى مدينة كييف كلها. ومدينة كييف عاصمة جمهورية أوكرانيا توصف بأنها مدينة في حديقة لكثرة الأشجار والحدائق بها حتى أنها تبدو كما لو كانت حديقة كبيرة أُسقطت بين خمائلها الأبنية والجسور والشوارع. كل الأماكن تسبح وسط الخضرة والزهور وهناك حدائق متنوعة في المدينة ومن بينها حديقة مخصصة لنبات الليلاك. ومن هذه الحديقة طلع الخبر المفاجأة.

نبتة الليلاك هي نبتة مزهرة وزهورها فائقة الجمال تنمو في عناقيد متنوعة الألوان فمنها الأبيض الثلجي والأحمر الأرجواني والبنفسجي والوردي مع تدرجات مختلفة من هذه الألوان. وهي نبتة يعتبرها مزارعوها ومحبوها كشفًا للمواقيت لأنها تزهر في أول الربيع بدقة بالغة وكأنها على موعد. لكنها في هذا العام خالفت موعدها القياسي الذي دأبت عليه منذ ثلاثين عامًا وأزهرت في حديقتها مبكرة بأسبوعين كاملين. وطار خبر هذا الإزهار المبكر وتبادله أهل كييف بفرح لأن ذلك يعني لهم حلول مواسم الدفء بعد الشتاء الطويل المثقل بالبرد القارس والثلوج الكثيفة.

فرح سكان كييف بإزهار عناقيد الليلاك وأخذوا يخرجون ملابس الربيع الخفيفة المبهجة من خزاناتهم ويخططون للخروج في نزهات خلوية بالغابات المحيطة بالمدينة ورحلات صيد واستجمام في جزر الرمال البيضاء الناعمة وسط نهر «الدنيبر» الفسيح. لكنهم ماكادوا يفعلون حتى أتت أخبار معاكسة تحبط فرحتهم. فقد أعلن علماء أكاديمية النبات أن الظهور المبكر لأزهار الليلاك الجميلة ليس علامة خير. بل هو إنذار من الطبيعة بالخطر الذي تتعرض له الأرض بسبب زيادة الحرارة الناتجة عن تراكم غازات الدفيئة من ثاني أكسيد كربون وخلافه في جو الأرض بسبب كثرة حرق الوقود الأحفوري من نفط وفحم وغاز وخشب. وهذه الزيادة في درجة حرارة الأرض أو «الاحترار الكوني» تهدد بتغيرات غير مألوفة في المناخ وتقود إلى ذوبان الثلوج من القطبين المتجمدين كما الثلوج على قمم سلاسل الجبال الشاهقة. وهذا بدوره يؤدي إلى ارتفاع منسوب المياه في البحار والمحيطات مما يعرض مدنًا ساحلية عظيمة في شتى أنحاء العالم للغرق. كما يؤدي لانقراض أنواع عديدة من الأحياء التي يصعب عليها التأقلم مع تغيرات المناخ المفاجئة، بينما تظهر سلالات مرضية وأوبئة جديدة لم تتهيأ لها النباتات ولا الحيوانات ولا البشر.

صارت عناقيد الليلاك في حدائق كييف نذير شؤم بدلا من أن تكون علامة خير. وأحس الناس بالحزن لكن أخبارًا أخرى من العالم جاءت تواسيهم وتخبرهم بأن ليلاكهم ليس وحده الذي اختلت مواعيده. فعلماء جامعة وسكنسن الأمريكية رصدوا إزهارًا مبكرًا لليلاك في مقاطعتهم. كما أن علماء جامعة هارفارد رصدوا إزهارًا مبكرًا كذلك لأشجار التوت الياباني والتفاحيات والأعناب. وقد أكد ديفيد وولف العالم المشرف على دراسة جامعة هارفارد أن هذه التغيرات المناخية ستستمر ويتفاقم خطرها مادام تصاعد غاز ثاني أكسيد الكربون الناتج عن شراهة حرق الوقود وجنون إحراق الغابات مستمرا.

راح سكان كييف ينظرون إلى عناقيد الليلاك الجميلة بتوجس دون أن يمتنعوا عن ارتداء ثياب الربيع الخفيفة المبهجة. وواصلوا الخروج إلى الغابات والجزر النهرية. لكنهم وهم يمرحون كانوا يتوقفون للحظات يتأملون فيها جمال الطبيعة الخلابة من حولهم، ويشعرون بالخوف من أن تكون هذه الطبيعة مهددة بالتدمير في السنوات القادمة بسبب جشع الإنسان وتطلعه للربح المادي بأي طريقة وبأي ثمن.

 


 

محمد المخزنجي