الماعز التي طارت.. عبير سلامة

الماعز التي طارت.. عبير سلامة

رسوم: نجيب فرح

عاشت الماعز «سعدية» في بيتِ «بدري» الفلاح مع بقرةٍ وكلبٍ وبعض الدجاجات، كانت في أكثرِ الأيامِ تأكلُ معهم بقايا الخبزِ الجافّ والفولِ المجروشِ، لكنها وحدها كانت تحلمُ حلمًا كبيرًا.

- في يومٍ من الأيامِ، سوف أطيرُ.

تقول سعدية لبقيةِ مَن معها في الحظيرةِ، فتضحكُ البقرةُ والدجاجات.

- الماعز لا تطير، لا أحد منا يستطيعُ الطيرانَ.

ينظرُ إليها الكلبُ مندهشًا، ويفكرُ في نفسِهِ أن رأس سعدية صغيرٌ كرأسِ الدجاجةِ، يقول لها:

- احلمي بأن يكون الحصادُ جيدًا هذا العام حتى لا يبيعك «بدري» للجزارِ.

تهزُّ البقرةُ ذيلَها متسائلةً:

- من أينَ تأتيكَ هذه الأفكارُ وأنت لم تغادري هذا المكان من قبل؟!

تتركهم الماعزة «سعدية» وتتجهُ إلى الجدولِ القريبِ، تتأملُ صورتَها في الماءِ، وتفكرُ في أنها مختلفةٌ عنهم، كل ما يهمهم هو أن يدسّوا رءوسَهم في الطعامِ الذي أمامَهم، لا يرون العصافيرَ والحمامَ، لا يتابعون الطائراتِ وبالوناتِ الأطفالِ، لا ينتظرون مثلها ذلك البالون الضخم الذي يمرُ فوقَ الحقلِ كل يومٍ، نعم... إنها مختلفةٌ، ترى ما لا يستطيعون رؤيتَه، ولذلك لا يستطيعون فهمها.

توقفت الماعز سعدية عن ذكر حلمها أمام البقرةِ والكلبِ والدجاجات، لكنها لم تتوقف عن الحلمِ. راقبت الطيورَ لعلها تتعلمُ منها الطيرانَ، جرّبت كثيرًا أن تقفزَ في الهواءِ، وكانت تقعُ على الأرضِ، وتتألمُ في كل مرة.

حاولت أن تفهم السببَ الذي يجعل العصفورَ يطيرُ، هل هو حجمه الصغير؟ لكن البالونَ أكبر منها، ومع ذلك يستطيع أن يطير، هل السبب هذان الجناحان اللذان يملكهما مثل بقيةِ الطيورِ؟ ليس لدى البالون أجنحةٌ، مثلها تمامًا، لابد إذن أنها تستطيع مثله أن تطير، فقط لو يقترب منها لتعرف كيف يحلّقُ عاليًا وينسابُ خفيفًا في الهواءِ.

ظلّت الماعز سعدية تقضي معظم أوقاتها بجوارِ الجدولِ، تمرُّ بها البقرةُ وتراها وهي سارحةً تفكر، فتنظرُ لها بإشفاقٍ، يمرُّ الكلبُ وينبحُ ساخرًا من حماقتِها، وتمرُّ الدجاجةُ فتحاول أن تقدم لها النصيحةَ:

- احمدي ربك على ما أعطاك، أنت أفضل حالاً مني، لا أحد يطلب منك أن تبيضي كل صباحٍ، لا أحد ينتظرُ منك كتاكيت، كل ما عليك أن تأكلي وتلعبي، فلا تحلمي بالمستحيل.

كادت الماعز سعدية أن تصرخُ فيها غاضبةً وتقول لها إنها تعرفُ ما المطلوب منها، ولا تقبلُ من دجاجةٍ صغيرةٍ أن تنصحها بأن تكفّ عن الحلمِ.

لكنها تسيطرُ بسرعةٍ على غضبِها، ثم تنظرُ للسماءِ وتتمنى أن تتمكن ولو مرةً واحدةً من التحليقِ فوقَ البيتِ، والحقلِ... والقريةِ كلها، مرة واحدة ترى فيها الأشياء من فوق، فتجرّب حريةَ الطيورِ وتحسُّ ببهجتها.

مرّت الأيامُ وجاء يومُ العيدِ. كان هذا هو العيد الأول الذي يمر منذ تزوجت أخت الفلاحِ «بدري» في المدينة المجاورةِ، وكعادة الفلاحين كان لابد أن يقدم لها ولأهل زوجها عشاءً كبيرًا، لم يستطع شراءَ خروف، فقرر أن يهدي إليها الماعز سعدية.

ربط الفلاحُ بدري الماعز سعدية بحبلٍ قصيرٍ وسحبها، لتقله إحدى العرباتِ المتجهةِ للمدينةِ. تحرّكت العربةُ بسرعة، وداعبت الريح وجه سعدية، فظنت أن العربة بالون، وأن حلمها سيتحقق، لكن العربةَ واصلت السيرَ على الأرضِ حتى توقفت في ساحةٍ واسعةٍ، وقبل أن تشعر الماعز سعدية باليأسِ، رأت الناسَ المبتهجين بالعيدِ يتزاحمون حولَ شيءٍ عجيبٍ، كيسٍ كبيرٍ جدًا من القماشِ ممددٍ على الأرضِ، وتتدلى من حوافِهِ حبال قوية تمسك بسلةٍ.

صعد ثلاثةُ رجال إلى السلةِ، وفجأة تصاعدَ من أعلاها لهبٌ، فأخذَ الكيسُ ينتفخ ويرتفع شيئًا فشيئًا فوقَ الأرضِ.

إنه البالون!

تقافزت سعدية فرحًا، وتشبثّت بأظلافِها في الأرضِ حتى توقف بدري، وجذبَ البالونُ انتباهَه، فاقترب ليشاهدَه، سأل الفلاحُ بدري الناسَ المجتمعين عمّا يحدث، فقالوا إن إحدى شركات السياحة توفر جولات بالبالون فوقَ آثار الأقصر في جنوبِ مصر. سمعتهم الماعز سعدية ورأت ثلاثةَ بالونات في طرفِ الساحةِ، وأمامها رجلان يشجعان الناسَ على القيامِ بالجولةِ، نظرَ الناسُ إلى البالونِ الذي ارتفعَ عاليًا، ولم يجرؤ أحدٌ على التجربةِ، فاستدارَ الفلاحُ بدري وسحبَ الماعز سعدية ليذهب إلى بيتِ أختِهِ.

حاولت سعدية أن توقفه من جديد، لكنه نهرَها وجذبها بقسوةٍ حتى كاد الحبل أن يخنقها. فكرت أنها لو كانت كلبًا لعضّت بدري في ساقِهِ. لو كانت بقرةً لرفسته وأوقعته أرضًا. ولو كانت دجاجةً.. ماذا تفعل؟ لن تكون مربوطةً بحبلٍ، وساعتها ستهربُ منه.

فكرت مرة أخرى، وقالت لنفسِها إنها لو كانت كلبًا أو بقرة أو دجاجة لما رأت البالونَ، فحمدت الله أنها ماعز.

نظرت الماعز سعدية إلى الفلاح بدري، كان يحاولُ الخروجَ من الزحامِ بصعوبةٍ، وفجأة تعثّر طفلٌ بجوارها، صاح والدهُ غاضبًا، ولام بدري لأنه لم ينتبه. اعتذر بدري، وانحنى ليساعدَ الطفلَ على النهوضِ.

شعرت سعدية بأنه ترك الحبل من يدِهِ فابتعدت بسرعة، وبحثت عن مكان تختبئ فيه، حتى رأت كومة من الصناديقِ الخشبيةِ بجوار حائط وتسللت وراءَها.

مرّ وقتٌ طويلٌ، فشعرت بالجوعِ، وندمت على هروبِها. زحزحت برأسِها صندوقًا ونظرت للساحةِ بحذرٍ. رأت أوراقَ خسٍ على الطريقِ، ولم يكن بدري موجودًا، فخرجت من مخبئها، والتهمتها مسرورةً. سمعت صياحَ الأطفالِ، وشاهدت بالونًا عند طرفِ الساحةِ يعلو، كان الناسُ يرفعونَ رؤوسهم ويشيرون لمن فيه.

أسرعت وتسللت إلى سلةِ أحد البالونين الباقيين، وجدت في ركن منه بعضَ الأكياسِ، فاختفت بجوارِها، بعد قليل شعرت سعدية بأن السلةَ تهتزّ، صعدت في البداية فلاحةٌ ترتدي عباءةً سوداء، ثم صعد زوجُها ورجلٌ آخر.

أشعل الرجلُ الموقد الموجود في أعلى السلةِ.

انتفخَ كيسُ البالون، ثم ارتفعت السلةُ فوق الأرضِ.

سمعت سعدية المرأة تقول بخوفٍ إن الأرضَ بعيدةٌ، فخرجت من مكمنها وهي تشعرُ بإثارةٍ شديدةٍ، رآها الرجلان، فصاحَ أحدهما مندهشًا، وقال الآخر:

- لابد أنها ضلت الطريقَ.

ربتت المرأةُ على رأسِ سعدية وقالت:

- مسكينةٌ، ماذا سنفعل بها؟

قال زوجها:

- نعيدها معنا ونسأل عن صاحبها.

حاولت سعدية الوصول إلى حافةِ السلةِ لتنظر منها، لكنها لم تستطع.

رأتها المرأةُ تحاول من جديد، فضحكت وحملتها بين ذراعيها.

نظرت الماعز سعدية إلى أسفل، ورأت كل شيء صغيرًا، الناسَ والبيوتَ والطرقات، الحقولَ مربعات خضراء، قاتمةً وفاتحةً، النهرَ جدولاً يتألق تحت الشمسِ، لم تشعر سعدية بمثلِ هذه السعادةِ من قبل، تحقق حلمَها أخيرًا.

وطارت.

 


 

عبير سلامة