موسيقى وقصص أخرى

موسيقى وقصص أخرى

رسوم: أحمد مرسي

حكاية السمكة وقطعة الخبز

وقف رجلٌ على شاطئِ بحيرة ليصطادَ. بعد أن وضع قطعةَ خبزٍ في صنارته طُعمًا للسمك. أحس بعد دقائق بالخيط ينشد، فجذبهُ جذبةً قويةً خارج الماء. وكانت عالقة به سمكةٌ فضيةٌ ظلت تتلوى في الهواء، إلى أن أفلتت من الصنارة ووقعت بعيدًا. سكنت السمكةُ قليلاً قبل أن تتقافزَ وتنتفضَ، لتستقرّ بقرب جحرٍ صغيرٍ يعيش فيه النمل.

رأت نملةٌ قطعةَ الخبز التي في فمِ السمكةِ وهيَ تتحرك. فأسرعت إلى زملائها ليمسكوا قطعة الخبز ويتعاونوا على حملها. لكن ما إن عادت بهم، لم يجدوا شيئًا غيرَ قطة تجري بعيدًا فصاحوا: «لقد سرقت قطعة الخبز».

غضبت النملة وقررت الذهاب إلى القرد - قاضي الغابة - تشكو القطة التي سرقت طعامهم. وأرسلَ القاضي في طلب القطة، التي حضرت ومعها السمكة. قالت:

- النملة كاذبة يا سيدي القاضي. هذه هي السمكةُ، فهل يأكل النملُ السمكَ؟

صاحت النملة في غضب:

- بل كانت قطعةَ خبزٍ رائعةً. كنا سنخزنها طعامًا لنا طيلة فصل الشتاء. وأنتَ تعرف قسوةَ الشتاءِ على النمل يا سيدي القاضي.

فهم القاضي الأمر حين نظر إلى السمكة، وقال مبتسمًا:

- من يحكي لي منكم حكايةً طريفةً أحكم لصالحه.. هه، من سيبدأ؟

قالت القطةُ:

- أنا حكايتي غريبة. إذ حدث أن كنت أسيرُ في الغابة. واعترضني الفيل وقال: مزاجي معكّر يا قطة ولن يعتدلَ إلا إذا حملتني على ظهرك وسرت بي لبعض الوقت على شاطئ البحيرة. فجعلته يقف على ظهري بقدمٍ واحدة. وقلت لنفسي إنه سرعان ما سيتعب من هذه الوقفة وينزل. لكننا كنا وصلنا إلى البحيرة ولم يحدث ذلك. ففكرت بأنني أجيد القفز. وقفزت به قفزةً جبارةً إلى الشاطئ الآخر للبحيرة. وفوقَ الماء أخذتْ أهزُ ظهري بقوة حتى أوقعته في الماء وغرق.

قال القرد:

- ولكن الفيل يمكنه أن يعوم.

قالت القطة وقد أسعدها أن أخذت حكايتها بانتباه القاضي:

- ولكنه في حكايتي هذه غرق يا سيدي القاضي.

ابتسم القاضي وقال: حكايةٌ طريفةٌ.. وأنت أيتها النملة.

تنحنحت النملة ثم قالت:

- أما حكايتي فمسليةٌ للغاية. وكما تعرف حضرتُكَ، فإن جحرَ النمل يقع بجوار بيت الجمل الذي كان كلما جاء الليلُ ونام، يصدر في نومه صوتًا مرعبًا يزلزل بنا الجحر ويخيف الصغار. فإذا استيقظ ومشى، يدوس بخُفّه العريضِ على بيوتنا ومخازن طعامنا. لذا اتفقنا نحن النمل على أن نلتقي عند ذيله في الليل. فتمسك كل نملة بشعرة من الذيل، ونجره إلى آخر الغابة وهو نائم.

لكنه كان متى استيقظ، يعود إلى مكانه الأول في الصباح، فنعود إلى جرجرته من ذيله في الليل. وهكذا إلى أن يئس في النهاية. وبنى له بيتاً بعيدًا عن جحر النمل. وبذلك استرحنا من نومه المزعج وُخفّه العريض.

ضحك القردُ وقال:

- هذه أيضًا حكايةٌ طريفةٌ. ليأخذ كل منكما طعامه.

ووضع قطعة الخبز أمام النملة، والسمكة أمام القطة مضيفًا: على أن تظلا صديقتين دون خصومة. ومضت كل منهما سعيدة بأن الحق كان إلى جانبها. وبحكايتها التي أعجبت القاضي.

موسيقى

باسم ولدٌ صغيرٌ وذكيٌ، يسكن مع أسرته بيتًا له ساحةُ واسعةٌ بها شجرٌ ونخلٌ، وحيواناتٌ صغيرةٌ ما إن تراه حتى تكف عن الشجار وتحيط به. فهو يداعبها ويلعبُ معها بالكرة أحيانًا. الكلبُ والأرنبُ والقطةُ وخروفٌ صغيرٌ يراه فينطلق في مأمأة فرحة. حتى الطيورُ لم تكن تضيّع فرصة اللعب معه. غير أنها ذات يوم لم تقبل عليه، بينما كان يسمع أصوات شجارها العالية من بعيد.

رأى الأرنب يزهو على زملائه: «من منكم له سرعتي وخفة حركاتي. يمكنني أن أطلع على كل الأشجار وأنزل في لحظات. وأن أذهبَ إلى آخر ساحة البيتِ وأعود في ثوان». وانطلق الأرنبُ ركضًا حتى اختفى. ولم يستمع حتى إلى الكلبِ الذي كان يناديه ويتفاخر بما له من شجاعة وحاسة شم تفوق الأصدقاءَ جميعًا.

صفقت البطة بجناحيها وهي تصدر صوتها المميز (كاك) وتقول: «أما أنا فيمكنني أن أعوم لساعات من غير أن أبرد أو تبتل مني ريشة واحدة. ولا يجاريني في هذا غير أختي الأوزة البيضاء»، وما بين فخر الحمام والعصافير بأجنحتها النشيطة. وزهو الخروف بقرنيه القويين، وقف باسم غيرَ قادرٍ على أن يوقف أصدقاءه مرتفعي الصوت.

فكر أن يقول لهم إنه سوف يكون لديه في الصيف القادم زي جميلٌ وحقيبة وكراسات وأقلامٌ، وسيلتحق بالمدرسة. وفكر أيضًا بأن يقول بأن لديه دراجات جميلة ملونة.

كان الأرنبُ الذي غاب لوقت قد عاد، مرتبكًا وخائفًا. وبيده شيء ملون يشبه أصابعَ الحلوى المتجاورة. بدا هذا الشيء غريبًا بالنسبة إلى الجميع، حتى أنه عندما ألقاه أمامهم راحَ كلٌ منهم يلمسه في حذر ثم يبتعد إلى الوراء. قال الأرنب: «لقد وجدت هذا الشيء الغريب معلقًا على شجرة، في البدء ظننته لعبة، لكن حين كانت أغصان الشجرة تتحرك بالهواء، كانت تخرج منه أصوات مخيفة كأن أحدًا يصرخ أو يضحك».

ضحك باسم، والتقط هذا الشيء، وقربَّه إلى فمه وسط ذعر الجميع. ولحظة أن مرره على شفتيه، علت منهم صرخات الدهشة ثم ما أسرع ما وقفوا على أقدامهم، إنها الموسيقى، أخذ النغم يجعلهم يرقصون، وراحت الطيور تصفق بجناحيها، بعد قليل كانوا ينهالون على صديقهم بالأسئلة.. من أين أتيت بهذا الشيء؟ ما اسمه؟ من علمك أن تفعل به هذا؟ قال باسم: هرمونيكا، اسمها هرمونيكا. وعاد ينفخ فيها ويرقصهم بعزف جميل.

بيت العفاريت

حين كنت صغيرًا، كنت وأصحابي نتجنب السيرَ بقرب بيتٍ معينٍ في شارعنا. نسميه «بيت العفاريت» وهو بيتٌ مهجورٌ، أبوابه ونوافذه مغلقةٌ، عليها ترابٌ وعنكبوتٌ. ومحاطٌ بسورٍ حديدي نمت عليه كتل من نباتات، امتدت إلى جدرانِ البيت، صانعةً تعريشة (سقف) كثيفة. تتداخل فروعها في فوضى، كانت القطط تتسلل من بين أعشاب السور، داخلة خارجة طول النهار. ونرى كتلَ العشب تهتز بحركات مفاجئة لدى اندفاع فأرٍ، أو سحلية تشع بألوانها الزرقاء والبرتقالية، وتمرق مثلَ سهامٍ فسفوريةٍ صغيرة. كنا نخاف تلك القطط كثيرًا خاصة حين نسمع مواءها وصرخاتها المفاجئة ولا نراها.

حدث أن سقطت كرتي فوق السقف، فتسلقت السور، ورحت أدحرجها نحوي بِعَصا. بينما قلبي يدق بسرعة، فماذا رأيت؟ لم أر شيئًا إذ أصابني الدوار فجأة على سماع صوت خفيض من بين النباتات الكثيفة ها هو، أسرعوا قبل أن يهرب». وخرج فرع يشبه ساق نبات اللبلاب. أخذ يتلوى في حذر، قبل أن يقفز إلى ياقة القميص ويتعلق بها. ثم التفت إلى رفاقه قائلاً:

- هيا.. اقفز مثلي يا مخلبَ القط، أخبر العنكبوت، وهاتوا معكم عشبة عنب الديب، هيا بسرعة.

في لحظات كانت الأحبالُ الخضراءُ والصفراء والبنية، رفيعةً وسميكةً، ناعمةً ومشوكةً قد لفت حول ذراعي وصدري مثل شبكة صياد. بدا لي الأمر حلمًا مفزعًا. بينما كان هناك صوت يخاطبني وهو يلهث «حرك يديك، حركهما بقوة في الهواء». لم أنتبه إلا وأنا واقعٌ على الرصيف، فجريت ناسيًا أمرَ الكرة. وبعيدًا وقفت أنفضُ الترابُ عن رقبتي وبقايا الأحبال الخضراء والأوراق الذابلة عن صدري. بينما أصحابي البعيدون ينظرون ناحيتي ويضحكون. ثم مر وقتٌ طويلٌ، إلى أن كنت عائدًا ذات يوم بصحبة أختي الكبيرة. خرجت قطة من بين أعشاب السور. قطة أو لعله قط كثيف الشعر. تميزه بقعة من شعر أبيض بين أذنيه. قفز إلى برميل القمامة وجعل ينكش فيه برأسه.

إن هي إلا ثوان حتى قفزَ إلى الرصيف. وخذ يلف حول نفسه في جنون وقد انحشر رأسه في كرتونة.اندفع يضرب الهواء برأسه المخبأ يمينًا وشمالاً بعصبية. ثم عاود الدوران حول نفسه مرات. لم يمكنه أن يتخلص من الكرتونة. فأخذ يقفز في كل اتجاه، ويرتطمُ بسور البيت وعمود النور، ويديرُ ذيله في الهواء مثل مروحة. اتجهت أختي إليه، وبهدوء انحنت على رأسه وحَرَّرته من الكرتونة. وعند هذا الحد كاد قلبي أن ينخلع من مكانه بالذات حين صوب القطّ إليها عينيه واتخذ وضعَ الهجوم بأن ثني ظهره مثل القوس ورفع ذيله، وراح يُصِدرُ من بين أسنانه صوتًا مرعبًا.

بَعد لحظات استدار، وفي لمح البصر كان قد قفز فوق السور واختفى. واصلنا طريق العودة إلى البيت وأنا أمسك بيد أختي. غير أن المفاجأة كانت تنتظرنا عند باب الشقة. وحين أوشكت أن اضغط زر الجرس، كان صوت رقيق لقِطّة تموء في الظلام بين أقدامنا.

كان هو، القط الأسود ذاته، ببقعة الشعر الأبيض فوق رأسه. تمطى حين رآنا وظل يتمسح بأرجلنا ويموء في ضعف. انحنت أختي عليه وحملته إلى صدرها قائلة:

- ما رأيك في أن نأخذه معنا. نعتني به ويؤنسنا، إنه قط طيب .. أخذت تمسح على ظهره.

.. يا له من قط جميل ووفي.

 


 

رضا البهات

 




غلاف هدية العدد