الكرسي المغرور

الكرسي المغرور
        

رسوم: صلاح بيصار

          كان الكرسي الوثيرُ يتوسطُ حجرةَ الصالونِ محتلاً موقعًا استراتيجيًا في قلبِ المكانِ، ومن حينٍ لآخر كانَ يمدُّ بصره في ثقةٍ حولَه، فيتأمّلُ بقيةَ الكراسي والأرائك التي تحيطه، فيهزُّ كتفيهِ في إشفاقٍ ويتمتمُ في سخريةٍ قائلاً:

          مسكينةٌ تلكَ الأثاثات الباليةُ، لا يكادُ يقتربُ منها صاحبُ الدارِ، أما أنا، فلكم أتمتع بمنزلةٍ رفيعةٍ في قلبِهِ، كيف لا وأنا الكرسي المفضل لديه، أمنحهُ الراحةَ والاسترخاءَ، وفوق ذلك كلّه أجعله يشعرُ بالفخرِ والزهوِّ، فقماشي الحريري الناعم ذو الألوانِ البهيجةِ المضيئةِ، وأخشابي الزانِ البنيةِ الأصيلةِ، وزخارفي والنقوش الجميلة الأخاذة تضفي على مظهري أناقةً  لا تضاهيها أناقةٌ، ثم إنني - وهو الأهم - مازلتُ شابًا يافعًا في مقتبلِ العمرِ، أتمتعُّ بصحةٍ وعافيةٍ جيدةٍ.

          ويعودُ الكرسي يتأملُّ مكونات الحجرةِ من جديدٍ فيطيلُ  النظرَ إلى الكرسي القديمِ الذي يربضُ إلى جوارِهِ ويقول له في إشفاقٍ:

          يا لكَ من كرسيّ بالٍ ليس لك أي فائدة، لقد وضعكَ سيدي هنا فقط، لكي تشغلَ مكانًا في الحجرةِ لا أكثر ولا أقل، فأنتَ في الحقيقةِ ليس لكَ أي أهمية أيها المسكين.

          انكمشَ الكرسيُّ القديمُ في نفَسهِ لدى سماعِهِ هذه الكلماتِ الجارحةِ،  وسرعان ما تساقطت الدموعُ الساخنةُ من عينيهِ، وحينما فتحَ فمَه لكي يدافعَ عن نفسِهِ، جاءَ صوتُه ضعيفًا ومشروخًا.

          وبعد برهة تمالكَ نفسَه وقالَ في كبرياءٍ:

          كفى غرورًا أيها الكرسي، نعلمُ جميعًا أنك أنيقٌ ووثيرٌ، وأيضًا المفضلُ لدى سيدي، ولكن لكلٍ منا دورَه في الحياةِ، أليس كذلك؟

          وصمتَ الكرسيُّ القديمُ قليلاً قبلَ أن يعاودَ الحديثَ ثانيةً، ثم قال وقد استعادَ ثقتَه في نفسِهِ بعضَ الشيءِ:

          - أنا مثلاً، رغم شيخوختي وكبر سنّي إلا أنني أحملُ الذكرياتِ العريقةَ فوقَ ظهري، انظر إلى تلك اليدِ الباهتةِ، إنها تحتفظُ فوق سطحِها بمئات الحكاياتِ والمواقفِ القديمةِ، وهذا الظهرُ تغمرُهُ التجاعيدُ والخطوطُ والدوائرُ التي تحملُ معَها رائحةَ الأيامِ. فأنا - يا عزيزي - شاهدٌ على عصورٍ وأزمنةٍ، وهذا ليسَ بالشيءِ القليلِ حقًا.

          هزَّ الكرسيُّ المغرورُ رأسَه، وقال غير مبالٍ:

          - وما فائدةَ كل ذلك يا عزيزي؟ لقد مضى الزمنُ القديمُ، ومعه مضت مفرداتُهُ وعناصرُهُ، فصارت مجرد أشياء بالية ليس لها أي أهمية أو قيمة تُذكر.

          - لكنها تحتفظُ مع ذلك بالذكرياتِ الطيبةِ، وتحتضنُ في أرجائِها التاريخَ الفائتَ، ومَن ليس له ماضٍ، ليس له حاضرٌ، ألم تسمع بهذه المقولة قبلاً؟

          - آه يا مسكين، إنها مجرّد ذكريات ليست إلا... ومن البديهي أن تلوذَ بها لتدفع عن نفسِك الأحزانَ والأوجاعَ وإحساسك بعدمِ الأهميةِ، ولكن قل لي يا عزيزي هل يمكنك أن تنكر يومًا أنني الكرسي الأكثرُ أناقةً وفخامةً وشبابًا هنا في هذه الحجرةِ؟!

          أطرقَ الكرسيُّ القديمُ رأسَه في حزنٍ وقال:

          - ومَن يمكنه أن ينكر ذلك... ولكن مهلاً يا صديقي، فالزمنُ يدورُ، والأمورُ تتغيرُ. فلا تكن مغرورًا هكذا، ومَن يعلم ماذا سيحدثُ غدًا؟

          ومرّت السنواتُ سريعًا، وظلَّ الكرسيُّ المغرورُ خلالَها محتفظًا بمكانتِهِ الفريدةِ، إذ دأبَ ربُّ البيتِ على الجلوسِ فوقَه ليلاً ونهارًا.

          وفي يومٍ من الأيامِ استيقظَ الكرسيُّ وهو يشعرُ بتعبٍ بالغٍ، كان الإنهاكُ قد نالَ منه، فلم يعد قادرًا على الوقوفِ طويلاً، وحاولَ جاهدًا - دون  فائدة - أن يتماسكَ ويتظاهرَ أمامَ أقرانِه وزملائِه بأن صحتَه على ما يرام.

          وفجأةً وهو يغالبُ التعبَ والألمَ، سقط على الأرضِ وانخلعت يداهُ وقدماه، وتفكّكت أجزاؤهُ المختلفةُ وصارت أشلاءَ متفرقةً.

          هرعَ ربُّ البيتِ في جزعٍ نحوَه، وحاولَ بكل جهده أن يلملمَ مفرداتِه المبعثرةَ، ولكن دون جدوى.

          كان لزامًا عليه أن يتصلَ بورشةِ النجارةِ ليتم إسعافُه وإنقاذُه من أزمتِهِ هذه.

          وهكذا وجدَ الكرسي المغرورُ نفسَه محمولاً ذات صباح فوق الأكتافِ بعد أن تمّ وضع أجزائِه المفككةِ في صندوقٍ كبيرٍ.

          كانت نظراتُ الإشفاقِ تحاصره من كلّ مكانٍ.

          ها قد جاءَ اليوم الذي سقط فيه على الأرضِ، وتبعثرت كرامتُه تمامًا مثلما تبعثرت أجزاؤه.

          وفي ورشةِ النجارةِ تناولته الأيادي، وتلقفتهُ الماكينات والأجهزةُ.

          من يدٍ إلى يدٍ...

          ومن ماكينةٍ إلى أخرى.

          وأخيرًا وبعد شهرٍ كاملٍ من الإسعافاتِ والضماداتِ والجراحاتِ، تماثلَ للشفاءِ وعاد ثانيةً إلى حجرةِ الصالونِ، لكنه وجد مكانَه المميز قد شغلهُ الكرسيٌّ القديمُ، إذ إن ربَّ البيتِ أدركَ أن الكرسي القديم بالرغم من مظهرِهِ البالي، وشكله العتيق أكثر تماسكًا وصلابةً من الكرسيِ الجديدِ الوثيرِ، فاكتفى بوضعِهِ في ركنٍ من أركانِ الحجرةِ.

          وعلى استحياءٍ وخجلٍ، بدأ الكرسي المغرورُ الحديث مع أقرانِهِ، فقال لهم في لهجةِ مودة غير مألوفةٍ منه:

          - آه يا أصدقائي الأعزاء، لشد ما أنا مشتاق إليكم. حقًا ما أجمل العودةِ إلى البيتِ.

          نظر الكرسيُّ القديمُ إليه مليًا ثم قالَ له بعد فترةِ صمتٍ:

          - حمدًا للهِ على سلامتك، عسى أن تكون الآن قد استوعبت الدرسَ يا صديقي، وتخليت عن غرورك وتعاليك، وأدركت أن الزمنَ لا يتوقف أبدًا عند أحدٍ، فكل واحدٍ منا لديه مميزاتُه وحسناتُهُ تمامًا كما لديه سلبياته وعيوبه.

          ومظهرنا الخارجي لا ينم بالضرورة عن مخبرِنا وذواتِنا، فلنكن إذن أسرةً واحدةً متكاتفةً ومتآلفةً، فالحياة تحتاج حقًا إلى مثلِ هذه المحبةِ والصداقةِ، أليس كذلك؟

          والتقت نظراتهم جميعًا في حبٍّ وصفاءٍ.

 

 

 


 

ليلى الراعي