العصفورُ الذي يتكلم، والشجرةُ التي تغني، والمياهُ بلونِ الذهبِ

العصفورُ الذي يتكلم، والشجرةُ التي تغني، والمياهُ بلونِ الذهبِ
        

ترجمها عن الإسبانية: محمد إبراهيم مبروك
رسوم : حلمي التوني

          في مرةٍ من المراتِ، وفي بلدٍ من البلادِ، كانت هناك ثلاث بنات يعشن معًا، وكن يتامى بعد موتِ الأبوينِ، دون أن يتركا لهن شيئًا أكثر من شغلِ الخياطةِ، والأخواتُ الثلاث نجحن في تدبيرِ ما يحتجن إليه في حياتهن.

          وفي أحدِ الأيامِ، كانت الأخواتُ الثلاث منهمكات في شغلِ الخياطةِ بالقربِ من النافدةِ المفتوحةِ، تنهدت الأختُ الكبرى وهي تقولُ:

          أمنيتي في الدنيا أن أتزوجَ ابن الملك لكي يشبعَني من الحلوياتِ، والأشياء الغاليةِ.

          والأخت الوسطى تنهدّت هي الأخرى وهي تقولُ:

          - أما أنا فأمنيتي أن أتزوجَ ابن الملك لكي أركبَ العرباتَ الفاخرةَ، وأذهب للتنزهِ في الأماكنِ كلها، دون أن أضطرَّ إلى مسحِ الأرضية ولا إلى دعكِها، ولا لأي مجهودٍ آخر.

          وعندئذٍ قالت الأختُ الصغرى:

          - لكن أنا أحب أن أتزوجَه فقط لأهبَه مولودين، أميرًا بالغ الجمال، وطفلة بنجمة على جبينِها.

          وتصادف أن كان ابنَ الملكِ يمرُّ بجوارِهنَّ، وسمعَ ما قالته الأخواتُ الثلاثُ بعد أن وقفَ تحت النافدةِ مصادفة. وبعدها أسرع إلى قصرِهِ، وأرسل يستدعيهن، وفي البدايةِ أصيبت الأخواتُ الثلاث بالذعرِ، وفكرن بأن شيئًا سيئًا لابد سيحدث لهنَّ، لكن الأمير حكى لهن أنه سمع حديثَهن مصادفةً، وأنه قد اختارَ الصغرى لتكونَ زوجتَه. أما الأختان، الأكبر منها فيمكنهما أن يعيشا معها في القصرِ ليكونا بصحبتِها. وليساعداها. والأختان أحسّتا على الفورِ بالغيرةِ تجاه أختَهما، لكنهما وافقتا.

          احتفلوا بالزواجِ، وبعد وقتٍ قصيرٍ صارت الأميرةُ حبلى، وفي هذا الوقتِ، نشبت الحربُ، وكان على ابن الملك أن يمضي إليها، تاركًا زوجته في رعاية أختيها. وكان الأميرُ في الحربِ وقتَ أن ولدت زوجتُه توأمين، أميرًا بالغ الجمال، وطفلةً بنجمةٍ على جبينِها.

          ودون أن تعرف الأمٌّ، قررت الأختان أن تأخذا المولدَين وتضعاهما في صندوقٍ، وتلقيا بهما في مياهِ النهرِ حتى يغرقا، وبعد ذلك ذبحتا كلبًا وقطةً، وسلختاهما وأحضرتاهما لتراهما الأميرةَ وحاشيةَ الملكِ على أنهما ما ولدته الأميرةُ. ثم كتبتا للأميرِ بأن زوجتَه جاءت له بمخلوقينِ مشوّهينِ غريبي الشكلِ.

          الأميرُ، وقد حزنَ حزنًا بالغًا، ردّ بأن عليهم أن يقتلوا المخلوقين المشوّهينِ غريبي الشكلِ، أما زوجته، التي ولدتهما، فتحيا مسجونةً بين أربعةِ جدرانِ.

          أما الصندوق الذي فيه الطفلانِ الوليدانِ، فقد عثر عليه رجلٌ طحانٌ يعيشُ هو وأسرتُه في بقعةِ منخفضةٍ قربَ مصبِّ النهرِ، رأى الصندوقَ طافيًا فالتقطَه، ولما رأى فيه الطفلينِ حملهما معه إلى بيتِهِ، أما امرأته، فللوهلةِ الأولى، لم يكنْ ما فعله الطحّانُ نعمةً بالنسبةِ إليها، إذ إن لديهما بالفعل أربعة أفواهٍ أخرى لابد من إطعامِها، وهما شديدا الفقرِ، لكنها في النهايةِ أحسّت بالشفقةِ عليهِما، ووافقت على بقائِهِما معهم، فأرضعتهما واحتضنتهما لتربّيهما مع أولادِها.

          مرّت السنونُ، وفي يومٍ ما، كان الأطفالُ في المدرسةِ، وحدثت مشاجرةٌ بين واحدٍ من أولادِ الطحانِ، والولدِ الآخرِ الذي أنقذَه الطحانُ من الغرقِ في الماءِ. قال ابنُ الطحانِ:

          - إنك أنت وأختك لستما شقيقين لنا، ليس لكما أبٌ أو أمٌ غير النهر، مثل ضفدع وضفدعة.

          ظل الطفلُ في كربٍ شديدٍ إلى أن راحَ يسأل الطحانَ، وعندئذٍ قال له الطحانُ الحقيقةَ، وهي أنه هو بنفسِهِ مَن أخرجَهما من النهرِ موضوعينِ في صندوقٍ.

          وفكّر الأخوانُ أن الأفضلَ لهما أن يهربا، في الغدِ، عندما يظهر النهارُ، ومن دون أن يقولا شيئًا لأحدٍ، آخذين معهما ما هو ضروري لهما وما لا غنى عنه. وليس أمامَهما إلا الذهابُ إلى الغابةِ وبناء كوخٍ لهما، ويمكنهما أن يعيشا فيه من الصيدِ الذي سيقومُ به الولدُ، والطفلةُ تأخذُ ما يصطاده وتنزل به إلى القريةِ لتبيعه، وتعودُ إلى الكوخِ. 

          وفي يومٍ مرّت عليهما امرأةٌ عجوزٌ تطلبُ إحسانًا، فأعطتها الطفلةُ قدرًا من الطعامِ، وعندئذٍ قالت لها العجوزُ:

          - ما أجمل كوخك هذا! ولكن للأسفِ، فأنت ليس عندَك العصفورُ الذي يتكلّم، والشجرةُ التي تغني، والماء بلونِ الذهبِ، ولو صاروا عندك، فسيكون عندَك حينئذٍ كلُّ شيءٍ!

          وظلّت الطفلةُ تفكرُ في ما ستقوله لأخيها، وعندما وصل حكت له.

          قال لها الولد :

          - ليكن ما يكون، ولابد لي من العثورِ على الثلاثةِ: العصفور والشجرة والماء، ومن أجلِهم لابد أن أسعى وأبحثَ عنهم، وسأتركَ لك سيفي، وإذا ما رأيت يومًا دمًا يجري عليه، اعرفي أنني في خطرٍ.

          وودّع الولدُ أختَه وخرج ليظلَّ يمشي ويمشي حتى قابل أحد الزهّاد معتليًا صخرةَ عاليةً، وله لحيةٌ بيضاء تصل إلى الأرضِ، سأله الرجلُ الزاهدُ:

          - إلى أين أنت ذاهبٌ أيها الشاب؟

          - ذاهبٌ لأجدَ العصفورَ الذي يتكلم، والشجرةَ التي تغني، والماءَ بلونِ الذهبِ.

          - ارجع، ارجع، فإن كثيرين ذهبوا ولم يعد منهم أحدٌ.

          إلا أن الشابَ أصرَّ بسبب أهميةِ ما خرجَ من أجلِهِ، وبعدما شكرَ الرجلُ الزاهدُ مقدرًا حرصَه عليه، طلب منه أن يسدي إليه معروفًا، ويقدم له النصيحةَ بما يجب أن يسلكه وما يتفاداه في الطريقِ.

          - هذا شيءٌ طيبٌ منك إذا كنت حريصًا على ذلك، إذن عليك أن تصعدَ إلى هذا المكان المرتفع، وأن تغطي أذنيكَ جيدًا حتى لا تسمعَ شيئًا وأنت سائرٌ في طريقِك، وخذ هذه الكرةَ وارمها أمامك لتتدحرجَ، واتبعها حتى النقطةَ التي ستتوقف عندها، وستلاحقك في سيرِك أصواتٌ وصرخاتٌ، وزعيقٌ وشتائمٌ، إياك أن تلتفتَ إليها، والشيءُ الوحيدُ الذي عليك أن تفعله أن تظلَّ سادًّا أذنيكَ عنها، والتقدم في طريقِك إلى الأمامِ، ولو لم تفعل ذلك الذي أنصحك به، فسوف تنسخط في الحالِ، وتتحول إلى حجرٍ أسودٍ.

          اتّبع الشابُ نصائحَ الرجلِ الزاهدِ فاعتلى الصخرةَ، وأخذ منه الكرةَ ورماها وأخذ يجري وراءَها، لكن الزعيقَ، والصرخاتَ، والشتائمَ أخذت تلاحقه بشدةٍ حتى أنه فقد القدرةَ على مقاومةِ فضولِه، وأغراه ذلك بالنظرِ خلفَه، فتجمّد بهيئتِهِ التي كان يلتفت بها، وبقي في مكانِهِ، وقد تحوّل إلى حجرٍ أسودٍ مثل كثيرين سبقوه من قبل وهم ذاهبون إلى هناك.

          رأت الفتاةُ في الحالِ دمًا يجري على نصلِ السيفِ، فاندفعت جاريةً إلى الطريقِ الذي سارَ فيه الشابُ، وبعد مسافةٍ طويلةٍ، التقت بالرجلِ الشيخِ الزاهدِ الذي سألَها:

          - إلى أين أنت ذاهبةٌ يا بنيّة؟

          فأجابته: ذاهبةٌ للبحثِ عن أخي الذي خرجَ للبحثِ عن العصفورِ الذي يتكلّمُ، والشجرةِ التي تغني، والماءِ بلونِ الذهبِ.

          وحذّرها الرجلُ الزاهدُ مثلما حذّر أخاها من قبلِ. لكنها أيضًا شرحت له أنها لابد أن تواصل سيرَها.

          قدّم لها الرجلُ الزاهدُ نصائحَه، والفتاةُ أخذت منه الكرةَ ورمتها لتتدحرجَ أمامَها وهي تجري وراءَها، وقد سدّت أذنيها عن الزعيقِ والصرخاتِ والشتائمِ التي تلاحقُها، التي تأتي من خلفِها، فلم تلتفت إليها، وظلت تتقدمُ وهي تنظرُ أمامها حتى توقفت الكرةُ فتوقفت هي أيضًا، وإذا بها تجدُ نفسَها في الحديقةِ التي وجدت فيها العصفورَ الذي يتكلّم، والشجرةَ التي تغني، والماءَ بلونِ الذهبِ. وأول ما قابلته كان العصفور الذي يتكلّم والذي قال لها:

          - جئت لتبحثي عني؟

          - نعم، وماذا عليَّ أن أفعل؟ هكذا سألته الفتاةُ، فقال لها:

          - انظري، هذه الشجرة التي ترينها هنا، هي الشجرةُ التي تغني. أترينها؟ خذي غصنًا منها، وستجدين بالقربِ منها عينَ الماءِ بلونِ الذهبِ، والتي يتدفقُ منها الماءُ من سبعِ فتحاتٍ. املئي جرةَ ماءٍ منها، ولكن احرصي على أن تملئي الجرةَ من الفتحةِ الأقلِ تدفقًا، وبعد ذلك، اذهبي ورشّي منها على الأحجارِ السوداءِ حتى تعثري على أخيكِ من بينِها.

          عملت الفتاةُ كل شيءٍ مثلما قال العصفورُ. راحت تنثرُ قطرات من الماءِ بلونِ الذهبِ على الأحجارِ السوداءِ التي انتفضت وتحوّلت في الحالِ إلى أمراءٍ وأشخاصٍ آخرين، إلى أن وصلت للحجرِ أخيها الذي ما إن رشته بالماءِ بلونِ الذهبِ حتى انفكَّ سحرُهُ وانتفض مستعيدًا نفسَه واندفعَ ليعانقَ أختَه.

          رجع الاثنان، ومعهما العصفور وغصن الشجرةِ وجرَّة الماءِ إلى كوخِهما، وبعد أن وصلا سألت الشابةُ العصفورَ:

          - والآن ماذا سنفعل بالغصنِ وبالجرّةِ؟

          فقال لها العصفورُ:

          - الغصنُ ستزرعينه أمام الكوخِ، وفي حفرةٍ بجوارِهِ ستصبّين الماءَ بلونِ الذهبِ من الجرّةِ.

          وهكذا عملا ما قاله العصفورُ، وفي الحالِ تحوّل الغصنُ إلى شجرةٍ مثل التي كانت الفتاةُ قد وجدتها هناك، وبجوارِها تجمّع الماءُ بلونِ الذهبِ، وتحوّل إلى نبعٍ. والعصفورُ انطلقَ طائرًا صاعدًا فوقَ أعلى الشجرةِ التي بدأت تتصاعدُ منها أغنياتٌ بالغةُ العذوبةِ.

          وفي اليوم التالي، خرج الأخُ للصيدِ، وتصادف أن كان ابنُ الملك يصطادُ أيضًا، إلا أنه لم يصطدْ أي شيء. وعلى العكس من ابنِ الملكِ، اصطادَ الأخُ الشابُ عدةَ أرانبَ بريةً، وأهدى أرنبًا للأميرِ، والأميرُ شكره على كرمِه معه، ودعاه إلى القصرِ، لكن الشابَ الآخرَ قال له إنه لابد أن يستشير أختَه.

          ولما عادا إلى الكوخِ، شرحَ لأختِهِ ما جرى في مقابلتِهِ مع الأميرِ، والأختُ سألت العصفورَ:

          - هل من المصلحة أن يذهب أخي إلى قصرِ الأميرِ؟

          وأجابها العصفورُ:

          - الأفضلُ أن يأتي الأميرُ إلى كوخِكما.

          وهذا ما كان، ذهب الأخُ إلى الأميرِ ليقولَ له إنه هو وأخته عندهما رغبةً شديدةً في دعوتِهِ إلى كوخِهما لأنهما يحبّان أن يرياه بعضَ الأشياءِ التي لم يرها أبدًا في حياتِهِ. 

          أثارت دعوتُهما فضولاً قويًا لدى الأمير فوافق على الفورِ، وعندما وصل إلى الكوخِ بدأت الشجرةُ في الغناءِ بشكلٍ جميلٍ وبصوتِ رخيمٍ يخلقُ حالةً نادرةً من الطربِ عند سماعه، وصار الأميرُ مفتونًا بها. ثم تطلع الأميرُ وهو مذهولٌ أيضًا إلى نبعِ الماءِ بلونِ الذهبِ. ورأى بعينيهِ وسمع كيف كان الأخُ وأختُه يتكلمان مع العصفورِ بنفس طريقتِهِ، وعندئذِ قال:

          - كيف سأكون ملكًا حقًا، وليس عندي هذه العجائب الثلاث؟ ولذلك لابد أن تأتيا معي إلى القصرِ بعصفورِكما، لأنه إذا لم تأتيا معي وهو معكما، فلن يصدقني الناسُ هناك.

          واتفقوا على يومِ الزيارةِ والموعدِ، عندما حان وقت الزيارة قال العصفور للأخوينِ:

          - اليوم ستتناولان الطعامَ في بيت أبيكما.

          تسمّر الأخُ والأختُ في مكانيهما فاقدين النطقَ من الذهولِ لما فاجأهما به العصفورُ. ولحظتها حكى لهما حكايتَهما الحقيقيةِ وأضافَ:

          - عندما تذهبان إلى هناك، وتجلسان إلى المائدةِ، لا تمدا أيديكما إلى أي طبقٍ ما لم ترياني أفعل ذلك بمنقاري في الطبقِ الذي أمامي، لأن الخالتين ستتعرفان عليكما، وستحاولان أن تضعا لكما السمَّ في الطعامِ الذي سيقدم إليكما.

          وبعد ذلك، وصلا إلى القصرِ واستقبلهما الملكُ أحسن استقبال، والخالتان ما إن رأتاهما حتى مالت واحدةٌ منهما على الأخرى وقالت لها:

          - انظري ودققي جيدًا في النجمةِ التي على جبينِها! إنهما ولدا أختنا، وعلاوةً على ذلك، فإنهما كما ترين متشابهان، إذ إنهما توأمان.

          وبدأ تقديم الطعام، وجاءت للأخِ وأختِه أطباقٌ من المطبخِ خصيصًا لهما، ولما لاحظا ذلك، نظرا إلى العصفورِ وأخذا يتابعان ما يفعل، فإن لم يلمس منقارُه الطبقَ الذي أمامه، لا يأكلان شيئًا من طبقهما، وتركا كلَّ الأطباقِ التي أحضروها لهما تمرُّ من أمامِهما، وفكّر الملكُ في ما يفعلانه وسألهما:

          - لماذا لا تأكلان؟

          وعندما ردّ العصفورُ نيابةً عنهما:

          - لأنهما يا سيدي ابنك وابنتك، ولا يريدان أن يموتا مسمومين. ذُهل الملكُ لما سمع هذا الكلام، وطلبَ من العصفورِ أن يشرحَ له بطريقةٍ أوضح. وحكى العصفورُ للملكِ الحكايةَ كلّها.

          بلغ التأثر بالملكِ أشدّه وهو يتحول إلى ابنِه وابنتِهِ ويقبّلهما. ثم يأمر على الفورِ بإخراجِ تلك المسكينة، التي هي زوجته، من الحبسِ، والتي خرجت بالغةَ النحافةِ والتعبِ، لأنها كانت تحيا على الخبزِ والماءِ فقط طوال تلك السنوات، لكن ولديها قدما لها الماءَ بلونِ الذهبِ، فاستعادت على الفورِ حيويتها.

          وزرعا في حديقةِ القصرِ شجرةً أخرى حتى يكونا في صحبةِ أغانيها الرخيمةَ المطربةَ، ويستمتع بها كلُّ المقيمين في القصرِ. ثم عملا عينًا أخرى للماء بلونِ الذهبِ لكي يشفيا كل المرضى من كلِّ الناسِ، ليسعدَ الجميع.

          أما الخالتان الحسودتان، فقد حبسوهما بين أربعةِ جدرانٍ حتى نهايةِ العمرِ.

 


 

   

 




غلاف هدية العدد