الرسام الفرنسي أوجين لاكروا يكتب مذكراته
الرسام الفرنسي أوجين لاكروا يكتب مذكراته
رحلتي إلى المغرب والجزائر «تشكل سنة 1832 منعطفا حاسما في حياتي الفنية بما كان له من وقع عظيم في نفسي، إذ يسرت لي الأقدار رحلة ممتازة إلى المغرب والجزائر، دامت من 11 يناير إلى 5 يوليو 1832، وأثناءها تعرفت على جزء من العالم العربي الإسلامي، الساحر بمناظره الطبيعية الخلابة وطباع أهله الكرماء وشعبه الوديع المضياف، وألوان ملابس سكانه المزركشة، وفن عمارته الجميل والشاعري الذي أبدعته أيادي صناع مهرة من مسلات مرمرية وسقوف مزركشة بعود منحوت وجبص منقوش، وبهرتني الجياد العربية الأصيلة التي استحضرتها في كثير من اللوحات التي رسمتها، وقد عدت من هذه الزيارة محملا بالعديد من الدفاتر والمذكرات التي دونت بها الكثير من الرسوم والتخطيطات الأولية، شكلت أساس أهم لوحاتي الزيتية فيما بعد، إلى جانب رسوم مائية كثيرة استلهمتها من هذه الرحلة. وأدين بالامتنان والتقدير في رحلتي الممتعة للمغرب والجزائر، البوابة الغربية لما يعرف بالشرق الغربي، لصديقتي الممثلة الآنسة «مارس»، التي رشحتني للكونت السفير شارل إدكار دومورناي أحد النبلاء من رجال الملك شارل العاشر (Charles X). لأرافقه في هذه الرحلة الدبلوماسية، بعد أن أكدت له توفري على مواصفات الرفيق الممتع والمؤنس، الواسع الاطلاع في الثقافة والفن والموسيقى، لاسيما وكما أوضحت له أنني سليل أسرة مال وجاه، إذ كان أبي «شارل ديلاكروا» (Charles Delacroix) وزيرًا للشئون الخارجية في عهد الملك «شارل العاشر» ثم حاكمًا فيما بعد لولاية «لاجيروند» بفرنسا، فضلا عن أن الدولة الفرنسية قلدتني وسام جوقة الشرف حديثا (1831).توجهنا أنا و«مورناي» في يناير 1832 وبالضبط في الساعة الثالثة صباحا على متن الباخرة «جوهرة» التي أقلتنا من ميناء «تولون» الفرنسي إلى مدينة طنجة، ولا أخفيكم انبهاري بهذه المدينة فور وصولي إليها، إذ ذكرتني أجواؤها بسحر الشرق وتوهجه وشاعريته كما وصفه الشعراء من أمثال «بايرون» (Byron) و«هوجو» (Hugo) و«لامارتين» (Lamartine). ولا أخفيكم أن هذه الرحلة التي تنقلت خلالها ما بين مدن طنجة ومكناس ووهران والجزائر بقيت من أعز الذكريات العالقة في مخيلتي، عززت نزوحي نحو الاتجاه الرومانسي، وهو أسلوب يستند إلى الخيال ويبالغ في نقل المشاعر والانفعالات بكثير من التفخيم، ولذلك سُمي بالاتجاه الفني الرومانسي الذي أنتسب إليه، وقد كنت ومازلت أؤمن بأن الصورة ينبغي أن تكون قبل كل شيء متعة للعين، ومن أجمل اللوحات التي رسمتها لوحة «نساء من الجزائر»، ولي معها قصة طريفة سأرويها لكم: حكايتي مع لوحة «نساء من الجزائر» «أكد لي الكثير ممن جالستهم جمالية الحياة الداخلية في البيوت العربية.. في عمارتها وأثاثها ونمط عيش النساء بها.. وقد دفعني الفضول إلى اقتناص أول فرصة تتاح لي لإشباع رغبتي في التعرف على هذه الفضاءات وحياة ونشاط النساء فيها وطقوسهن اليومية، إذ لا يبارحن مساكنهن ولا يزورهن إلا أفراد العائلة كما تقضي بذلك عادات أهل الشرق، إذ استضافني مدير ميناء مدينة الجزائر أثناء إقامتي بها في بيته الفخم الأنيق، وأكرمني بما لذّ وطاب من أطعمة وشراب شهيين... وبعد أن تحدثنا في مواضيع كثيرة بعد وجبة الغداء، طلبت من مضيفي زيارة بعض أركان بيته بعد أن تغلبت على خجلي وطاوعتني جرأتي لأبوح له بهذه الرغبة. وفي بهو عال ومن خلال نافذة تطل على غرفة فسيحة تجلس بها بعض النسوة، أمضيت ساعات وأنا أسترق النظر وأدون على دفتر بحوزتي معالم هذه اللوحة، وهي تظهر جزءا من حياة النساء في مجالسهن داخل البيوت الموسرة وما تمتع به الحريم من رغد العيش والترف، وقد تمكنت من إخراج هذه المسودة للوجود أثناء عودتي لفرنسا وأبدعت هذه اللوحة الجميلة سنة 1834». نافذة على حياة «أوجين ديلاكروا»
|