العاصفة

وسط العاصفة

وسط العاصفة

رسوم : عبد العال

حدث ذلك منذ زمن قديم بعيد جدًا, موغل في القدم. كان صياد سمك اسمه إبراهيم يعيش في قرية قريبة من البحر, وكان يخرج كلّ يوم بزورقه الصغير وشبكته وحربته إلى البحر, يبتعد عن الساحل, وهنالك في مكان ملائم يلقي بشبكته. كان إبراهيم الصيّاد يكتفي كل يوم بعشر سمكات كبيرات لا أكثر, فهو رجل قنوع برزقه, أما السمكات الصغيرات, فكان يرجعها إلى البحر وهو يهمس في أذنها: سترجعين إليّ عندما تكبرين. كان يأخذ سمكتين اثنتين لأهله وأطفاله, وواحدة لجارته الأرملة الفقيرة وأطفالها, أما الباقيات فكان يبيعها بأسعار زهيدة. كان صيادًا طيب القلب, متواضعًا, محبّا للناس ومساعدتهم, بالإضافة إلى أنه رجل قنوع, ولهذا كان محبوبًا من قِبل الآخرين, وكان دائمًا لا يرجع من مشوار صيده إلا وسلته مليئة بعشر سمكات. خمسون سنة مضت وإبراهيم يمارس هذه المهنة منذ صغره, حيث كان يخرج مع والده, ثم أخذ يخرج وحده إلى البحر بعد فقده والده.

لقد أصبح صديق البحر, يستحمّ فيه, أو يغسل كفيه ووجهه بماء البحر من زورقه, ثم ينظر إلى البحر الممتد أمامه, كان بحرًا هادئًا, أزرق زرقة السماء, البحر أيضًا صار صديقه, وكان يتفقده حينما يغيب عنه بسبب مرض أو بسبب عاصفة هوجاء, فكان البحر يناديه بهدير أمواجه الصاخبة التي تضرب صخور الساحل, وكان إبراهيم يسمع صوتها فيقفز من فراشه ويقف على الساحل يلوّح للبحر, للأمواج, فتهدأ وتأتي رخاء إلى فيه وكأنها تلثمه, فيأخذ إبراهيم حفنة من ماء بكفّه ويغسل وجهه, ثم يضحك, فيرى انعكاس وجهه على صفحة البحر وهو يردد: أهلا بحبيبي البحر, ومصدر رزقي. جنية البحر الطيبة أصبحت صديقته, وكانت تدلّه على مكان الصيد الوفير بعد أن عرفته رجلاً طيبًا, وكم من مرّة رجته أن تملأ زورقه كلّه سمكًا, إلا أن إبراهيم القنوع كان يرفض ذلك ويقول لها باسمًا: آنستي ابنة البحر, لا آخذ أكثر من عشر سمكات, هذا رزقي وفيه كل البركة, وأترك باقي الأسماك للصيادين الآخرين. كانت جنية البحر تضحك فرحة من كلامه, من بساطته وطيبته ومن قناعته, ثم تلوّح له وتغوص في الأعماق. في يوم ما, حين كان إبراهيم السمّاك بعيدًا عن الساحل إذا بعاصفة شديدة تفاجئه وهو في زورقه الصغير, فهاج البحر بغتة وأزبد, وارتفعت الأمواج وأخذت تضرب بعضها بعضًا بصورة جنونية. والزورق يعلو وينخفض ثم يدور بقوّة, وأخيرًا لطمته موجة قوية, فانقلب على ظهره وأخذ يغوص, لكن إبراهيم الصياد وبخفّة تعلق بالمجذاف وهو يردّد: يا إلهي! رحمتك... وأخذ يكافح الموج بثقة لا تضاهيها ثقة, وبعزيمة لا تلين, إنها العاصفة الهوجاء يجب أن يثبت ويقاوم وإلا فالمصير معلوم. فأخذ يقاوم بكل عزيمة, إنه ابن البحر, فلم ييأس, بل كان يقاوم ويتحدى العاصفة وهو في وسطها, وفي قرارة نفسه كان يدعو ويقول: يا إلهي...أدركني.. لا تتركني وحدي, أغثني برحمتك الواسعة, أطفالي وزوجتي ينتظرونني يا أرحم الراحمين. فجأة اقترب منه سمك القرش, فتح فكّيه القاسيين, حام حوله كعادته قبل أن ينقضّ على فريسته, إلا أن جنيّة البحر الطيبة سرعان ما وصلت إليه, وقالت للقرش: ابتعد يا قرش عن إبراهيم, إنه صديقي الطيب, وصديق البحر, وإذا بالقرش يدير رأسه, ويذهب بكل هدوء دون اعتراض, وهو الحيوان الشرس. الساحل مازال بعيدًا عنه إلا أن العاصفة عبرته, كان يسمع زئيرها وهو ماسك بالمجذاف, ثم أخذ البحر يستعيد هدوءه, وظهرت زرقة السماء الصافية, اقتربت منه جنية البحر وقالت له: لا تخف يا إبراهيم, عاصفة وعبرت, شدّة وراحت, إيمانك أنقذك, وكذلك طيبة قلبك وإحسانك للأرملة, إن الله لا يضيع أجر المحسنين, لقد غمرك برحمته الواسعة, فلا تخف. العاصفة ولّت وراحت تضرب الصخور كعادتها حتى تهدأ, ماء البحر احتواه برفق من جديد بعد هذه الشدّة المباغتة الصعبة, وكأن البحر يعتذر له ويقول: سامحني يا إبراهيم, اعذرني, إنها العاصفة الغادرة, ليست بيدي, أما نحن فسنبقى صديقين, أنت وأنا.

ابتسم إبراهيم السماك لجنية البحر التي كانت تسبح بجواره, ولم تتركه لحظة واحدة منذ هبّت العاصفة, قال لها: لقد تعبتُ يا صديقتي, وزورقي ضاع, وشباكي فُقدت, وأرجو مساعدتك, لأني لا أدري ماذا سأفعل...!

آهٍ يا إبراهيم, لقد كافح ببطولة, كنتُ أنظر إليك وأنا بقربك, كنت تقاوم الموج بروح صامدة شجاعة, إني أهنئك وأغبطك على صمودك, إنني معجبة بك, بشجاعتك وصبرك, العاصفة كانت تريد تحطيمك, ولكنها لم تستطع, بورك فيك, وسأبقى معك أساعدك لأنك تستحق المساعدة, وإن كنتُ أعرف أنك تستطيع الوصول إلى الساحل بنفسك لأنك صاحب عزيمة, ثم نادت صديقها الدلفين الصغير وقالت له: ساعده, إنه صديقنا. فانطلق الدلفين كالسهم فرحًا حاملاً الصيّاد البطل فوق ظهره حتى الساحل, وهناك عند الساحل سجد إبراهيم لله وشكره, ثم راح يجفّف ثيابه, والتفت إلى الدلفين الذي ظل يلاحظه وقال: إني أشكرك أيها الدلفين الصغير, ما أطيبك يا ابن البحر! هزّ الدلفين رأسه وقال: انتظر, لا تبرح مكانك أيها الصديق, غاص الدلفين في الأعماق, وبعد فترة, كانت سبعة دلافين تدفع القارب نحو الساحل حتى وضعته أمام السمّاك إبراهيم.

صاح إبراهيم مدهوشًا, وتهلل وجهه: يا إلهي!! زورقي يعود لي...!! كم أشكرك أيها الجبار العظيم على رحمتك.

ثم غاصت الدلافين مرّة أخرى, وخرجت بالشباك, وفي إحدى الشباك عشر سمكات كبيرات, فرح إبراهيم أمام البحر, رفع رأسه إلى السماء وصاح: كم أشكرك يا إلهي على لطفك ورحمتك ونعمتك!! لقد أنقذتني ورزقتني.

وقف السمّاك إبراهيم أمام البحر يتطلّع إليه بحبّ وإعجاب ورهبة, وكان البحر آنذاك - بعد انتهاء العاصفة - هادئًا يمتدّ أمامه واسعًا حتى انطباق الأفق بلا شاطئ, ومن بعيد, كانت جنية البحر الطيبة تلوّح له وهي واقفة على ظهر دلفين يشقّ عباب الماء, ثم غاص في أعماق البحر.

رجع إبراهيم إلى زوجته وأطفاله محمّلاً بالأسماك, فرحًا بعد أن أفلت من فكي العاصفة والقرش, وبين آونة وأخرى كان يكرر شكره لله, ثم أخذ بشوق يقبّل أطفاله ويحتضنهم, يتلمّسهم بيديه, وكأنه غير مصدّق أنه رجع إليهم حيًا سالمًا.

 


 

زهير رسّام