قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

العطار

رسوم : ممدوح طلعت

الزمن لا يكف عن الحركة, إذن لماذا لا يكون غدًا أفضل من اليوم?!

بدأت هذه الفكرة في التسرّب ببطء داخل الصغير (وارد) وهو يساعد أباه في ترتيب أدوات العطارة في المحل الذي يمتلكه.

كانت تجارة غريبة بالنسبة للطفل الذي بلغ الآن سن العاشرة, عام 1330م, في القرن السابع الهجري, بالقاهرة, فالأب لا يبيع للناس ما ينفعهم فقط في منازلهم, بل هو (صيدلي حقيقي).. قال له:

- هذه الأكياس المملوءة بالأعشاب خلقها الله عز وجل كي تشفي الناس, بقدرته.. لم يكن الأمر مجرد تخمين, بل جاء ذلك بواقع الخبرة, والتجربة, فقد تناول الناس من هذه الأعشاب, واستطاعوا التغلب على آلام المرض العديدة.

كان لكل عشب رائحته الخاصة, وكان (وارد) يمتلك حاسة شم بالغة القوة, فيستطيع أن يميز بين كلٍ منها.

وصارت الأعشاب الطبية بمنزلة صديقة له. كأنها تناديه أن يقدمها إلى الزبائن الذين يستشيرون الأب (ابن النصر) فيما يمكن أن يأخذوه كي يشعروا بالراحة.

لاحظ (وارد) أن أباه هو مجرد (عطار), يبيع بضاعته, من واقع الخبرة, لذا قرر أن يصير صيدليًا, وأن يحول هذا الدكان إلى (صيدلية) تقدم للناس ما هو مضمون في تأثيره.

حدث صديقه (كوش) برغبته في ذلك, فقال له:

- تعال لنقابل عمي, لديه الكثير من الكتب المفيدة.

والتقى الصغير بالعم (أبو الضياء) الذي كان يحتفظ بأهم كتب الصيدلة, والطب, في مكتبته, قال له:

- لا يوجد خير من هذا الكتاب, إنه (الدستور البيمارستاني) من تأليف داود ابن أبي البيان, فيه كل استخدامات الأدوية لكل الأمراض.

وقرر الصغير أن يقارن بين ما جاء في الكتاب, وخبرة أبيه, وبدأت السنوات تمر, وصار (وارد) شابًا, واستطاع إقناع أبيه أن يحتفظ في الدكان ببعض هذه الكتب, حين قال له:

- كتاب (الدستور البيمارستاني) يستعمل في كل مستشفيات مصر وسورية التي توارثتها الأسر طوال عدة أجيال.. وامتلأ الدكان بكتب الطب والصيدلة.

وعندما تزوج الشاب, وأنجب, صار اسمه (أبو المنى وارد بن أبي النصر), لكن الناس لم تكف عن اعتبار الصيدلية دكان عطارة, لذا عرف بالعطار, وهو الاسم الذي ورثه عن أبيه الراحل.

كان من الصعب أن يغير كل حياته فجأة, بعد رحيل أبيه, لذا أعاد النظر فيما حوله, وفي محتويات الدكان, وبدأ في كتابة وتأليف كتاب جديد, يعوض النواقص التي لاحظها في (الدستور البيمارستاني).

وهكذا جاء كتاب (منهاج الدكان), وقال فيه إن الصيدلة علم واسع, لذا فإنه قدم ما هو أكثر إفادة.

كما ضم الكتاب أيضًا, بشكل منظم, إرشادات للطبيب, وأخرى للصيدلي, وثالثة للمريض, كما تحدث عن استخدامات الأدوية بناء على ما كتبه الأسبقون, ثم ما جربه منه, وفوائده بناء على الخبرة والتجربة.

كما رتب العالِم (العطار) الأدوية المركبة, من حيث المواد الداخلة في التركيب, عددها, ونسبة كل منها, وكيف يتم التركيب, وبيان تخزين كل منها, أو إعدادها قبل الاستخدام مباشرة.

ومرّ الزمان.. ولم يتغير اسم (الدكان), لكنه صار صيدلية حقيقية, بل مكتبة علمية, ومعملاً متطورًا, حيث صار كتاب (منهاج الدكان) بمنزلة الدستور الطبي والصيدلي في مدن عربية عديدة.

وذات صباح, دخل الصغير (صهبان) إلى دكان عطارة أبيه, إنها المرة الأولى التي يأتي كي يتفرج, قال لأبيه:

- لماذا يختلف دكاننا عن بقية الحوانيت الأخرى?

تذكر الأب الحوار الذي دار قبل سنوات طويلة مع أبيه, نظر إلى (صهبان) في إعجاب وقال:

- افعل ما تشاء.. سوف يكون دكانك يومًا ما.. لكن.. لا تتخل عن اسمه.. سوف يظل باسم (العطار).

 


 

محمود قاسم