سعد يضيء المدينة

سعد يضيء المدينة

رسوم : حلمي التوني

مازال سعد يذكر ذلك اليوم البعيد, عندما فتح عينيه كلتيهما, ووجد نفسه في مدينة تحت الأرض, يسودها الظلام الدامس.

القاذورات والفضلات متراكمة في كل درب وزقاق, تتوافد عليها الحشرات الشرهة, والناس نحيلو الأجسام, شاحبو الوجوه, كأنهم أشباح يعيشون في كهوف وعيران. لا يزور بعضهم بعضًا, ولا يحتفلون بأعياد, كأنهم حيوانات!

الناس في هذه المدينة, لا يتناولون إلا الفطريات, ولا يشربون إلا الماء الكدر. يحلمون بالبرتقال والتفاح والإجاص والمشمش والتين والموز والعصائر الشهية, والكعك والحلويات والهلاليات والمربى والجبن...!

الناس في هذه المدينة الغريبة, يقضون نهارهم وليلهم في الحَفر, يبحثون عن المعادن النفيسة لسيدهم (الوطواط أو الخفاش) حاكمهم, الذي يصدّرها إلى مدينة الشمس الواقعة فوق الأرض...!

مدينة الظلام خاملة, لا تشهد حركة ولا نشاطا, خالية من السيارات والحافلات والدراجات وملاعب الرياضة والمدارس والمستشفيات, ونوادي اللعب, والغابات والأنهار والحدائق الغناء...!

فكر سعيد في نفسه:

- يالتعاستي! في هذه المدينة سينمو جسمي نحيلا, وعقلي كسولا, فلا أقدر على العمل الذهني واليدوي. ماذا ينبغي أن أفعل? لأبحث عن الشمس الدافئة, لا عن المعادن الثمينة. فهي تمنحنا النور والدفء, وتبخر الماء ليسقط مطرا يسقي الأرض, فيحيي الإنسان والحيوان والنبات...!

لم يبق أمام سعد إلا طريق واحد, أن يتخلص من هذه الحياة الكئيبة. فماذا فعل?

ذات ليلة من ليالي الشتاء, تسلل من كوخه دون أن يشعر به جيرانه, وسار إلى ضاحية المدينة. ثم دلف إلى مركز الحراسة بحذر وحيطة شديدين, فوجد الحراس نائمين, يغطون في سُباتهم الطويل, حول المدفأة.

خطا نحو الصوان خطوة, خطوتين, ثلاثا, وبخفة, جذب مفتاح باب المدينة, وقلبه يخفق...يخفق... مثل فأر.

لم تمض إلا لحظات قليلة, إذا بسعد يفتح الباب, ويطلق رجليه للريح, يجري, يعدو, يركض, يقفز فرحا بنجاته.

ويستيقظ الحرّاس فزعين هلعين, عندما صك آذانهم صرير الباب القوي. فانتشروا في كل ناحية, يبحثون عن سعد, هنا وهناك, في هذا الركن وذاك.

وذاع الخبر بسرعة البرق, فتقاطر الناس على الباب, وعلا الهرج والمرج, لكن الجنود تصدّوا لهم, وحالوا دون خروجهم...!

قضى سعد أياما, وهو يمشي يمشي, يعبر الحقول الخضراء, ويخترق الغابات الكثيفة, ويتسلق الجبال الشاهقة. يملي عينيه الذابلتين بمناظر الطبيعة الخلابة, هذه حقول تطفح بالخضر والفواكه, وهذه غابات كلها أشجار مورقة, وكلأ وحشائش طرية, وطيور وفراشات وقرود وأرانب وسناجب وقنافذ, وهذه حدائق وبساتين, تزيّنها الورود والزهور العبقة بأريجها الذكي, وهذه قطعان من الغنم ترعى, تثغو بصوتها العذب, تملأ المراعي الخضر ثغاء, ما أجمل الحياة, ما أجمل الحياة!

باغتت سعدا حورية فاتنة الجمال, تتمايل بشعرها الطويل, ذات اليمين, ذات اليسار, تظهر حينا, تختفي حينا آخر بين أغصان الأشجار, تعلو وتسفل كأنها فراشة ملونة. فكر سعد في أن يمكسها فجرى خلفها, من هنا إلى هناك, من هذه الناحية إلى تلك, من هذا الحقل إلى ذاك, حتى وصلا قصرا فخما من ورود تحوطه سواق, تترقرق مياهها عذبة, والسمك الصغير الملون يطفو ويغوص, كأنه يلهو فرحا بالهدوء والسكينة.

وكم كانت دهشة سعد عظيمة, عندما أحاطت به عشرات الحوريات باسمات, ومن بينهن ظهرت ملكتهن باشة, تطلق على كتفيها شعرها الطويل, كأنه مويجات البحر في هدوئها:

- عم صباحا, طفلي الجميل!... عمّ تبحث في هذا القصر?

سألته الملكة بحنان, فأجابها متلعثما:

- عن...ن الشمس الضاحكة!

ابتسمت بملء فيها:

- وماذا تريد منها?

لمعت عيناه:

- شعاعا, شعاعا فقط, أضيء به مدينة الظلام!

لا أريد أن تبقى مدينتي مظلمة, لا يبصر سكانها إلا السواد, ولا يميّزون بين صباحهم ومسائهم!

ترقرقت دمعة من عينيها الزرقاوين:

- حسنا, يا بني...!

ينبغي أن تنقذ مدينتك من ظلامها الحالك! أنا الشمس, وشعري هذا أشعتي الفضية, خذ هذه الخصلة, إذا اقتربت من باب مدينتك, أصبحت بلمعانها القوي مضاءة..!

جذب سعد الخصلة بلهفة من يديها الناعمتين. وأخذ يجري, يركض كالحصان, والحوريات يضحكن من حركاته السريعة..!

قالت الملكة:

- يعجبني الطفل الذي يضيء مدينته, فينظفها من القاذورات والنفايات, ويعلم الأميين القراءة والكتابة, لأن العلم نور والجهل عار, وينخرط في الجمعيات الثقافية والفنية والرياضية, ويُحسن إلى الفقراء والضعفاء والمعاقين!...ألا تصبح المدينة, بل الوطن مضاء بهذه الأعمال الجميلة?!

كان سعد يجري, لا يبالي بالمسافة الطويلة الشاقة, ولا بالصخور والأشواك والعقبات التي تعترض طريقه, كان أمله الوحيد أن يصل المدينة ويضيئها, لينقذ سكانها الطيبين من الظلام, كانت الفرحة تغمر قلبه الصغير, تنسيه كل العناء.

وما أن دنا من باب المدينة, وهز الخصلة إلى أعلى أعلى, حتى بدأ النور يخترق الجدران والباب, يتسلل عبر الشقوق والثقوب, يكتسح الدروب والأزقة, والدور والقصور, والكهوف والغيران, يبدد الظلام, ويدفئ الأرض, كل الأرض, ويغذي النباتات وينشط الكبار والصغار.

لم يتمالك الوطواط نفسه, والنور يدخل كل بيت, فأطلّ من شرفة القصر غاضبًا:

- مَن أحضر النور إلى مدينتي?! أغلقوا الأبواب والنوافذ, والشقوق والثقوب, كيلا يتسلل الضوء! سأنتقم من سعد, هذا الطفل الذي دمّر مدينتي, وحرمني من سكانها الضعفاء!

لم يردّ عليه أحد, فالنور عمّ كل الأنحاء والأرجاء, والناس فتحوا له أبوابهم ونوافذهم وأعينهم وقلوبهم فرحين به.

وأقاموا حفلات بهيجة يفرحون ويمرحون, يرقصون ويغنون, في سرور وحبور كبيرين.

ومنذ ذلك اليوم, وهم يحتفلون بـ(عيد النور). فاجعلوا يا أطفال, أيامكم كلها نورا على نور, تحيوا سعداء نشطين...!

 


 

العربي بن جلون