قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

رسوم : ممدوح طلعت

عبداللطيف البغدادي
الشك... أول طريق لليقين

في الرحيل كل الفوائد.

هكذا أدرك الصغير (موفق الدين) منافع السفر بين المدن, حين حدثه أبوه عبداللطيف أن حياته تغيرت كثيرًا منذ أن جاء إلى بغداد وأقام فيها.

وصل الأب إلى العاصمة, في منتصف القرن السادس الهجري, كانت (بغداد) عاصمة العالم الإسلامي المزدهرة, وأقام في درب (الفالوذج) وأنجبت زوجته ابنا, هو موفق الدين.

لكن, ما إن كبر الصغير, وبلغ سن الدراسة, حتى وجد أباه يغير من رأيه, ويقرر العودة مرة أخرى إلى مدينته الأصلية (الموصل) كي يستقر بها بقية حياته.

وفي الموصل التقى موفق الدين بأساتذة أجلاء, نبغوا في العلوم, والطب والفلسفة, ووجد نفسه يتلقى منهم كل ما لا يعرفه, لم يكف عن الانبهار, وهو ينضم إلى مجالسهم, رغم فارق السن الكبير.

وعرف أن أستاذه (الأنباري) ينوي السفر إلى مدينة دمشق, فقال له:

سوف آتي معك لعلّي أصبح في درجة علمك.

كان (موفق الدين) قد عرف باسم البغدادي في مدينة الموصل, وعندما وصل إلى دمشق, كان اسمه قد سبقه إلى هناك, فذاعت شهرته, كمحاضر يلقي الدروس العلمية, وهناك سمع به السلطان صلاح الدين الأيوبي, فاستدعاه, وطلب منه أن يعمل معلمًا في ديوان الجامع الكبير بدمشق.

وقرر التوجه بعد ذلك إلى القاهرة التي بهرته, وتوجه ذات يوم لمشاهدة الأهرامات الثلاثة, فوقف أمامها مندهشا, وردد:

الذين بنوا هذه الأهرامات لا بد كانوا أصحاب عقول صائبة.

وشرع (موفق الدين( الذي عُرف في مصر باسم (عبداللطيف البغدادي) في تأليف كتبه العديدة, كان يرى أن في القرآن الكريم, والحديث الشريف جميع ما يخص الطب, فكتب مؤلفه (الطب من الكتاب والسنة). ثم ألف كتاب (رسالة في المعادن وأبطال الكيمياء), و(مقالة في الحواس).

ذات يوم, استيقظت مدينة القاهرة, على كارثة مروعة, فقد راحت البيوت, والبنايات تهتز بقوة, وانهار الكثير منها على سكانها.

أحس الناس أن ما حدث, هو امتحان كبير من الله سبحانه وتعالى, خاصة أن نهر النيل في تلك السنة 604 هـ, قد شحّ على سكان مصر بالمياه.

كانت أحداث مؤلمة, تهز القلب, والوجدان, وبعين الباحث, والعالم, راح يُدون ما حدث في المدينة, كيف عمّ الجوع, والمرض والحزن قلوب الناس, وكيف خرجوا من المحنة بقلوب راضية.

تعلم (البغدادي) من التجربة أن الطب منقذ عند الكوارث, فقد نجح في علاج الكثير من الكسور للمصابين في الزلزال, وخاصة كسور الجمجمة, وساعده ذلك في الكتابة عن هذه الكسور بجميع أنواعها, وأساليب علاجها.

كما تعلم أيضًا من التجربة المريرة, كيف يقوم بتشريح فك الإنسان, ووصف الفك بدقة شديدة في مؤلفاته, وقال لتلاميذه الذين ساعدوه:

- عندما حطم الزلزال المدينة, كان علينا إنقاذ الضحايا والمصابين, ووجدنا ما ندرس عليه ما يفيدنا في العلم والبحث.

وقرر أن يرحل إلى مدينة القدس, وكان الوداع حارًا من تلاميذه.

ولم يتوقف رحيله, عرفته مدينة دمشق, وجبال أرمينيا, وتركيا, ثم عاد إلى حلب, قال يومًا, وهو يرى التلاميذ يحيطون به:

- علمني أبي فوائد الرحيل, وعلمتني المعرفة أن كل البلاد وطن لي, ليس للعلم وطن, إنه في كل البلاد.

وتنافست المدن, وتلاميذها, من أجل جذبه للإقامة فيها, لم يكن الرحيل هنا بهدف التسلية والسياحة, بل للمعرفة وإفادة الآخرين.

كان المرضى ينتظرون وصوله, أو يأتون إليه في كل مكان يذهب إليه, ولأنه رجل اعتاد الدقة والإخلاص, فكان يتولى علاجهم بما لديه من مهارة, وما عرف عنه من دقة

ولم يكف (موفق الدين) عن تأدية رسالته في التحصيل, والإفادة إلى أن عاد إلى بغداد عام 629 هـ, في رحلته الأخيرة, وهو يردد:

- هنا, بيتي الأول.. وأيضًا الأخير.

وقد كان.. في العام نفسه.

 


 

محمود قاسم