تالا والرّباب

تالا والرّباب

رسوم: ريما كوسا

كان يا ما كان في قديم الزمان في واحة خضراء صغيرة تقع في وسط صحراء واسعة, فتاة صغيرة طيبة مرهفة الحسّ, رقيقة الإحساس, كما كانت تبدو عليها ملامح القوة والكرم.

باختصار, لقد كانت تتحلّى بكلّ صفات اسمها الذي منحها إياه جدّها الحكيم عند ولادتها, فقد أصرّ على تسميتها باسم (تالا) وهو يعني (النخلة الصغيرة).

كان جميع أبناء قبيلتها يحبّون شجرة النخيل, بل يعتبرونها شجرة مباركة, فهي عماد حياتهم اليومية وزينة واحتهم الخضراء.

ولذلك كانت تالا تزداد فخرا باسمها الجميل يوما بعد يوم, وأيضا يمتلئ قلبها بحبّ جدّها الذي أهداها هذا الاسم.

ولكنّ أمرا واحدا كان يعكّر صفو سعادتها ألا وهو:

هل عندما تكبر ستبقى نخلة صغيرة أم سيتغيّر ويصبح شجرة نخيل كبيرة?!

فكلّما نظرت إلى أشجار النخيل الباسقة في الواحة الخضراء, خطر ببالها هذا الأمر, فتتوجّه في كلّ مرة إلى جدّها وتطرح عليه السؤال نفسه.

فيجيب جدها: إن بعض الأسماء يا صغيرتي تتغير عندما يكبر من يحملها.

فتسأله بلهفة: وهل اسمي من بين هذه الأسماء?!

فيردّ الجدّ: هذا الأمر يتوقف عليك لا على أحد غيرك.

فتسأل تالا: كيف?

فيقول الجدّ: عندما تكبرين سيمنحك المستقبل الجواب, ثمّ يصمت الجدّ ولا يزيد في الكلام مهما حاولت أن تستنطقه.

ولذلك لم تجد تالا من مخرج سوى الوقوف أمام مضارب القبيلة مترقّبة وصول المستقبل لتجد الجواب الذي تنشد.

ومرّت الأيام ثقيلة الوطء على تالا, وخصوصا بعد وفاة جدّها العجوز, فقد تعبت كثيرا من الانتظار وحيدة, فعلى الرّغم من أنّها أصبحت حلوة كحبّة التّمر, باسقة كشجرة النّخيل, فإنّ المستقبل لم يأت, والشيء الأهم أن اسمها لم يتغيّر, فهي لاتزال تلك النّخلة الصغيرة, فالجميع لا ينادونها إلا (تالا), وهذا ما كان يحزنها, فخطر ببالها أن تغادر مضارب القبيلة, وتذهب للبحث عن المستقبل, ولكنّ تذكّرت حديث أمها عن الذئاب المتوحشة التي تملأ الصّحراء, فخافت وطردت الفكرة, ثم قالت في سرّها: يا لسعادة الفرسان الشّجعان, إنهم يجوبون الصّحراء ولا يخشون الذئاب ويلتقون بالمستقبل, أمّا أنا...فهيهات....هيهات.

فعادت للتفكير بالأمر مجددا, فسألت نفسها: هل سأضيّع سنوات عمري في الانتظار?

ثم استطردت قائلة: إنّ المستقبل سيمنحني الجواب وجدّي كان صادقا ولا يمكن أن يكذب.

فلاشكّ أن شيئا ما قد منع المستقبل من الوصول إلى مضارب قبيلتنا القابعة وسط هذه الصحراء الموحشة.

واستمر الوضع على حاله إلى أن جاء يوم جادت فيه أبواب السماء على الواحة الخضراء بماء منهمر على غير عادة, مما اضطرّ معه أفراد القبيلة للمكوث في قبابهم فترة طويلة.

ولكن ذلك الغيث المنسكب الذي أسعد الجميع لم يمنح تالا إلاّ التّعاسة, فالخير قد غيّر الجميع وبدّل أوضاعهم إلا اسمها, فقد ظلّ صغيرا ولم يكبر, بل أخذت تشعر بأنّ روحها تضيق لتناسب اسمها الصغير, فانزوت تالا داخل قبتها فترة من الزمن لا تخرج منها إلا نادرا, ولا تقابل أحدا, لكي لا تتعرض للسخرية ومتأمّلة أن ينساها الجميع فتوفّر على نفسها الهمز واللمز من قبل الآخرين.

صبرت تالا كثيرا وتحاملت على ألم العزلة والوحدة لم يخفف عنها سوى الكوة الصغيرة في جدار القبة, فكانت تراقب من خلالها السماء الرحبة وأشدّ ما كان يعجبها السّحاب الأبيض الرّقيق المسمّى بالربّاب فكانت تقول لنفسها يا ليت كان اسمي رباب.

وفي أحد الأيام وصل أحد الفرسان الشّجعان إلى الواحة الخضراء والذي أمضى سنوات عدة من حياته يجوب الصحراء من واحة خضراء إلى أخرى ليبحث عن المستقبل برفقة فرسه كحيلة بنت أعوج والتي كانت من أعرق سلالات الخيل العربية, وكان الفارس سيف الفلاة يحمل معه هدية للقبيلة وهي عبارة عن صيد وافر من جلود الذئاب الغدّارة التي صارعها في طريق سفره.

استقبل سكان الواحة الخضراء ضيفهم بالترحاب وقبلوا هديته بكلّ امتنان ووزعوها فيما بينهم وكان نصيب تالا واحدا من هذه الجلود بعد دباغتها.

ما أجمل هذه الهدية! وما أروعها! فقد غيّرت حياة تالا بشكل جذري فكلّ فرد من أفراد القبيلة استخدم الجلود في الفرش إلا تالا التي كانت تحلم بأن تتحول إلى ربابة, فقامت بترطيب الجلد ثمّ لفته على مربع خشبي يميل إلى الاستطالة يخترقه قضيب خشبيّ تبرز أطرافه ثمّ قامت بصناعة وتر من شعر ذيل حصان سابح وبواسطة عود على شكل قوس محني رفعت الوتر عن سطح الجلد.

وكلّما كانت بطلة حكايتنا تجرّ القوس بيد وتحرّك على أعلى الوتر أصابع يدها الأخرى, كان يخرج لحن عذب حنون يوائم غناء تالا الجميل المشبّع بالأصالة, فترتسم في ذهن كلّ من يسمع هذا اللحن صورة الرباب الأبيض الذي يناجي أشجار النخيل الباسقة.

وهكذا استطاعت تالا بفضل شاعريتها وعمق إحساسها أن تحرّر الأحلام الزّهرية التي كانت منسيّة في أعماق جميع من حولها.

فكلّما بدأت تالا بالعزف والغناء تجمع حولها أبناء الواحة, وعندما تتوقّف كانوا يصيحون...

رباب... رباب...رباب.

وهكذا تبدل حال نخلتنا الصغيرة فأضحت سحابة بيضاء تسبح في السماء بكل حرية, وذلك بعد أن نمّت موهبتها وأصبحت شاعرة الواحة.

ولكنّ بطلتنا منذ ذلك اليوم لم تعر أيّ اهتمام لأمر نموّ الأسماء, لقد فهمت أخيرا معنى صمت جدّها عندما كانت تلحّ عليه بالسؤال وهي طفلة صغيرة, فمن المؤكد أنّه لم يكن حكيم القبيلة فحسب, بل كان أيضا أمير النّخيل, ولابدّ أنه اختار لها اسم (تالا) ليقول لها: كم هو سعيد بقدومها إلى الحياة وليؤكد أنها ستبقى صغيرته الغالية بل نخلته الصغيرة المباركة مهما مرّ من السنين.

لقد اكتشفت سرّ الدخول إلى عالم الأسماء السحريّ, فبالحبّ وملامسة أعماق الآخرين نهدى أحسن الأسماء وأجملها.

ولأنّها محبّة, فقد حصدت الكثير من الأسماء الحلوة...(رباب)...(باسقة)... (تمرة)...(رفقة)... (كريمة).

آه نسيت أن أخبركم لقد تزوجت تالا وسيف الفلاة, وسافرت معه ولأنهما كانا نعم الرفيقين فقد أهدّاها اسم (رفقة) وأهدته اسم (رفيق).

ولم تنس أهل واحتها, فقد أهدتها آلتها الموسيقية التي لم يستطع أن يعزف عليها إلاّ من يهوى نخيل الواحات ورباب السماء.

وقد اتّفق الجميع على تسمية الآلة السحرية باسم (ربابة), تيمنا بالسّحاب الأبيض الذي أهدى اسمه إلى ابنة واحتهم (تالا) التي ما انفكت عن صناعة (الربابة) لتقدّمها هدية للواحات الخضراء كلّما اصطاد سيف الفلاة ذئبا لينشر الأمان قدر استطاعته في الصّحراء إلى أن قضى الله أمره.

 

 


 

رلى هلال علي