بيتنا الأرض

بيتنا الأرض

غرباء في سرير البحيرة

جاء موسم الفيضان. امتلأت الأنهار بالمياه المندفعة في اتجاه البحيرة وأعلنت السلطات حالة الطوارئ. ومع هدير المياه المندفعة بغزارة من مصبات الأنهار في حوض البحيرة تعالت صرخات الآلاف من البشر. كانوا يفرون بينما المياه تعلو وتوشك على إغراق بيوتهم التي بنوها على ضفاف البحيرة. يحملون معهم كل مايستطيعون حمله ويهربون بحياتهم وحياة أطفالهم وحيواناتهم من مصير الغرق. لم يتأخروا هذه المرة في تلبية طلب السلطات بإخلاء المكان. استوعبوا درس كارثة فيضان البحيرة منذ ثلاث سنوات عندما غرق آلاف البشر الذين تشبثوا بأماكنهم وهم يرددون: (كيف نترك أرضنا.. كيف نترك أرضنا?). وردت عليهم البحيرة بقسوة كأنها تقول لهم: ليست هذه أرضكم, بل سريري.

نعم, هذه الأرض هي سرير البحيرة. أما الناس الذين بنوا بيوتهم على حوافها في غياب الفيضان فهم دخلاء. انتهزوا فرصة انحسار الماء عن ضفاف البحيرة وبنوا بيوتهم على الأرض التي انكشفت وقالوا: هذه أرضنا. لا, هذه ملك البحيرة, فالطبيعة مثل البشر لها أيضا ممتلكات, والذي يعتدي عليها لابد أن يتوقع غضب الطبيعة عليه وقسوتها وهي تسترد ممتلكاتها منه. خاصة عندما تكون هذه الممتلكات سريرا عظيما, تعبت البحيرة في تغطيته بفراش وثير طوال عشرات, بل مئات السنين. وهذا أصل الحكاية..

مع كل فيضان تأتي الأنهارالمندفعة بأطنان وأطنان من الرواسب الدقيقة المعلقة في المياه. ومع استقرار المياه في حوض البحيرة تأخذ هذه الرواسب في الهبوط إلى القاع وتغطيه بطبقة ناعمة تكون سميكة في الصيف ورقيقة في الشتاء, تشبه حلقات النمو في جذوع الأشجار إذا أخذنا منها مقطعا, وتشبه الأغطية التي نفرش بها الأسرّة. لهذا يسمي العلماء حوض البحيرة المغطى بطبقات الرواسب: سرير البحيرة. ويتسع هذا السرير لأقصى درجة عندما تمتلئ البحيرة بالماء في مواسم الفيضان, لكن مع انقطاع الفيضان وهبوط الماء تنكشف مساحات واسعة من هذا السرير ويهرول إليها البشر الذين لايفهمون حقوق الطبيعة أو لا يقدرونها.. يبنون على سرير البحيرة البيوت والمصانع ويحرثون الحقول وكأن البحيرة نسيت سريرها إلى الأبد!

لكن لا, الطبيعة لا تنسى, وسرير البحيرة هو سريرها, وتخيل أنت لو أنك تركت سريرك ليلة وعدت إليه لتتمدد عليه وتستريح فوجدت غرباء يحتلونه, ستغضب, وتطردهم, وتستخدم العنف إن لم يذهبوا بسلام. وهذا ما فعلته البحيرة وستفعله كلما عادت إلى سريرها ووجدت غرباء يحتلونه. فلا يلوم البشر إلاّ أنفسهم.

 


 

محمد المخزنجي