قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

رسوم: ممدوح طلعت

محمود الفلكي

بعض الناس لا يكفون عن النظر لأعلى.

ومن هؤلاء كان الطفل (محمود حمدي), فبالرغم من أنه مولود في مدينة القاهرة عام 1815م, فإنه لم يكن يكف عن التطلع إلى أعلى, وتأمل نجوم السماء, والقمر, وهو يردد:

- هل هو عالم واسع لهذه الدرجة?!

كان يحب الجلوس على حافة نهر النيل يتأمل, ولم يكن يحب غرفته الصغيرة الضيقة, لذا, فعندما سافر عام 1824 إلى الإسكندرية, وجد ضالته, فهناك البحر, والأفق, وأيضًا المنطقة العالية المعروفة باسم (كوم الناضورة), التي يتم فيها استطلاع هلال الشهر الهجري في مطلع كل شهر عربي.

التحق الصغير بالمدرسة البحرية, وتعلم اللغة الفرنسية من خبراء بناء السفن, وبعد أن تخرج في المدرسة عام 1833, قرر العودة إلى القاهرة مرة أخرى, والتحق بمدرسة المهندسخانة, التي تخرج فيها عام 1839.

كان أول من يترجم كتب علوم الرياضة عن اللغة الفرنسية, عمل مدرسًا في المدرسة نفسها لعلوم الفلك, وكان أول مَن نادى بضرورة بناء مرصد (حلوان).

ومن يومهاعرف باسم (الفلكي).

لم يكن يكف عن العمل, وانشغل بمسألة مهمة, هي قياس طول بلاده وعرضها, وقال لزميله في العمل (حامد):

- الأمر بالغ الصعوبة لو فعلنا ذلك بالقياس التقليدي.

وقرر أن يستخدم حساباته, ومهاراته في علم الفلك, قياس الأبعاد, لكن الأمر غير سهل بالمرة, إذ كيف يمكنه أن يقنع محمد علي باشا بهذا العمل المهم, مُثل بين يديه, وقال:

- سيدي الوالي, لو استطعنا قياس مساحة الأرض الزراعية, كان من السهل على الحكومة تحديد الضرائب عليها.

واقتنع الوالي بالسبب, وترك (محمود الفلكي) ينفذ مهمته.

كان الشاب يعرف ما سوف يفعله, استطاع أن يدبّر الأجهزة الخاصة لذلك, وأيضًا الرجال الذين يمكنهم أن يتحملوا المغامرة.

وبدأت رحلة أول مغامرة علمية عربية معاصرة.

انطلق (محمود الفلكي) نحو الشمال, بين محافظات الدلتا في مصر, وتمكن من قياس الأرض الزراعية.

واستطاع أن يعرف المقياس الحقيقي للأرض الزراعية, وغير الزراعية..

وانتهى الرجل من المرحلة الأولى من مهمته, ثم بدأ نحو الجنوب, نحو الصعيد, واستطاع أن ينجز الكثير من المهام, لكن, ليس كل ما يحبه الإنسان يناله.

فقد توفي الوالي, ولم يكن أبناؤه الذين جاءوا من بعده, متحمّسين للعلوم التطبيقية مثل الأب, لذا, كان على (الفلكي) أن يعود إلى القاهرة.

في القاهرة, ردد في أسى لتلميذه الشاب (علي مبارك):

- ما أسوأ أن يرتبط العلم بالسياسة...إنه كيان مستقل.

كان (علي مبارك) قد تفوق على أستاذه, عندما تقرب أكثر من أبناء محمد علي, خاصة (عباس الأول) الذي مات عام 1854, لكن (الفلكي) كان قد تعلم الدرس جيدًا.

قرر أن يسافر إلى باريس, وهناك أقام سنوات عدة, درس علم الفلك بعمق أكثر, وزار المراصد في كل من ألمانيا, وبلجيكا.

وذاعت شهرته في أوربا, ووصلت أخباره إلى الخديو (سعيد), الذي عرف أن (الفلكي) نشر الكثير من الأبحاث العلمية, منها بحث عن (التقويم العربي قبل الإسلام).

وعاد (الفلكي)إلى مصر بعد سنوات البحث والغربة.

وأنعم عليه الخديو برتبة (الباكوية), واختير عضوًا بالمجمع العلمي المصري. وقام بتأسيس الجمعية الجغرافية.

لكن حلمه الأكبر كان...كما قال لـــ(رفاعة الطهطاوي) رائد النهضة الفكرية:

- أنا لا أحب الأحلام, لكنني أرى في مخيلتي أول مرصد عربي, يقام في بولاق.

وعرض (الطهطاوي) الفكرة على الخديو. الذي قال:

- سأكون سعيدًا حقًا, لو بنى المصريون أول مرصد.

وبينما العمال يشيدون حجر الأساس, لم يكف (الفلكي) عن البحث في أمور عدة, فنشر دراسة قال فيها إن الأهرام بنيت عام 3303 قبل الميلاد, مع احتمال زيادة أو نقصان حوالي مائة سنة.

وتم الانتهاء من بناء أول مرصد عربي.

وتمكن من التوصل إلى نتائج مهمة, منها أن نسبة ارتفاع الهرم الأكبر إلى محيط الكرة الأرضية = 1:270 مليونًا.

وفي عام 1860 تمكن (الفلكي) من رصد أول كسوف للشمس عن طريق المرصد. وأثنت المؤسسات العلمية الأوربية على هذا الإنجاز.

ومع مرور السنين, بدأت أجهزة الرصد الحديثة في الوصول, من أجل أن يكون مرصد بولاق هو الوحيد من نوعه خارج أوربا.

 


 

محمود قاسم