قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

رسوم: ممدوح طلعت

أبو الوفاء البوزجاني.. الطفل الذي صادق ظله

(إنهُ يُطاردني, في كلِ مكانٍ أذهبُ إليهِ).

أطلقَ عليهِ أصدقاؤه الأطفالُ (صديق الظلِ) فقد أُصيبَ الصغيرُ بحالةٍ من الدهشةِ, عندما لاحظ أن (ظلهَ) موجودٌ معه في كلِ مكانٍ.. يمشي أحيانًا أمامهُ, يبدو في بعضِ الأوقاتِ أقصرَ منه طولاً, وفي أوقاتٍ أخرى أكثرَ طولاً, إنه يشبهه, يوجدُ حينَ تشرقُ الشمسُ, كما يظهرُ في الليلِ, عند أي ضوءٍ..

وصارَ الظلُ صديقًا للطفلِ أحمد المولود في مدينةِ (بوزجان) عام 940 ميلادي, إنه الآن في العاشرةِ من العمرِ, ومعروفٌ باسم (صديق الظلِ).

سأله صديقه خالد: ألا تتضايق من ظلك الذي يطاردُكَ في كلِ مكانٍ?

بدا كأنه يداعبه, قال:

- لا.. إنهُ لا يتركني أبدًا, سوفَ أقومُ بقياسهِ.

اندهشَ (خالد), وهو يتساءلُ (قياسه) ماذا تقصدُ?

رددَ (أحمد البوزجاني), أعرفُ متى يكونُ ظلي أطولَ مني, ومتى يصيرُ أقصرَ طولاً.. متى يختفي, ومتى يظهرُ?

وصارتَ لعبةً , وتحولتَ اللعبةُ إلى علمٍ, وصارَ على الصغيرِ الذي بدأ يكبرُ أن يعرفَ أشياء كثيرةً عن ظله, وسرعان ما عرف أن الأمر يتوقفُ على زاويةِ سقوط الضوءِ عليه هو شخصيًا.

فحينَ يسقطُ ضوءُ الشمسِ من أعلى. في وسطِ الظهيرةِ, يصيرُ الظل صغيرًا, لكن عندما يأتي الضوءُ من زاويةٍ حادةٍ, يصيرُ الظلَ كبيرًا, أكبرَ من اللازمِ.

وكي يفهم أكثرَ, كان عليه أن يحولَ اللعبةَ إلى درسٍ, وإطلاعٍ.

وعندما صارَ في العشرينِ من العمرِ, رحلَ إلى مدينةِ (بغداد), ولم يغادرَ مكتبتها طوالَ ساعاتِ النهار, قرأ مؤلفات العالِمِ اليوناني القديم (أقليدس), والعالِم العربي (الخوارزمي) مبتكَرِ علمَ الجبرِ.

وتعمقَ أكثرَ في علومِ الهندسةِ.. وتمكَّن من استيعابِ المعادلاتِ الصعبةِ, وراحَ يردد لزملائهِ الذينَ يترددونَ مِثله على المكتبةِ:

- حلُ المعادلاتِ, أشبهُ بفكِ الحبل.. لا تقطع العقدةَ التي يمكنكَ فكها.

كان (صبورًا), يتتبعُ المعادلةِ, منذ بدايتها, ويتصرفُ كأنه يقومُ بفكِ حبلٍ معقودٍ.. لذا كان سريعَ الفهمِ.

لم يكنْ يفكرُ في التفوقِ على أقرانهِ من العلماءِ الشبابِ, بل تصرفَ بشكلٍ تلقائي, الهدفُ هو أن (يفهم).

وسرعانَ ما فهمَ أنَّ حلَّ المعادلاتِ الهندسية ليس الهدفَ المنشودَ.. فعشاقُ علمِ الرياضياتِ يمكنهم أن يفعلوا ذلك بدرجاتٍ مختلفةٍ.

لكن من المهمِ تحليلُ هذه المعادلات.

لم يكنْ قد تجاوزَ الخامسةَ والعشرين من العمرِ, وهو يؤسس عِلمًا جديدًا اسمه (الهندسةُ التحليلية).

في كل محاولاتهِ, كان يتخيلُ أن لكل شيءٍ ظلاً.. وكان لا يكفُ عن دراسةِ هذه الظلالِ, حركتها, زاويتها, وحاولَ أن يربطَ بين العلومِ الرياضيةِ, بعضها بعضاً.

سأله زميلهُ (خالد) الذي صارَ تاجرًا مشهورًا في مدينة بغداد:

- هل تعرفُ يا صديقي, كلما سافرتُ بالجملِ في الصحراء.. يطاردني ظلُ الجمل.. فأتذكرك?

قال (أبو الوفاء أحمد البوزجاني) لصديقه:

- لو درست العلمَ مثلي, لتوقفتَ عن الدهشةِ.

وشرحَ له ما توصلَ إليه, وأخبره أن (الهندسةِ التحليليةِ) هي الهندسةُ التي ترسمُ فيها المعادلات الجبرية بأشكالٍ هندسيةٍ, خاصةً المعادلات التي تمثل الأشكال البسيطة مثل الدائرة.

بدا (خالد) كأنه لا يفهمُ شيئًا.. لكنه لم ينس أبدًا مسألةَ الظلِ.. لكنه لم يعرف أن هذا الحوار فتحَ البابَ للبوزجاني أن يؤسسُ ما يسمى بـ (حساب الظل).

وفي هذا الحساب, استطاع أن يتوصل أخيرًا إلى طول الظل, حسب الضوء الساقط على الجسم.

وذاعت شهرة (البوزجاني) خارج مدينة بغداد, ورغم صغر سنه, فإن العلماء جاءوا إليه كي يشرح لهم آخر ما توصل إليه, وراح يهديهم نسخًا من مؤلفاته (كتاب في الحساب) و(الكامل), وغيرهما.

لكن الكتاب الذي ذاعت شهرته, كان عن القياسات.. هذا الكتاب الذي قام بتأليفه بأمر من الحاكم (بهاء الدولة) كي يتداوله أرباب الصناعة. والصناع الذين يحتاجون إلى كل ما هو جديد, في إنتاج المصنوعات الدقيقة.

وأغرب ما جاء في هذه الكتب أن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية.. لم يعرف أحد في ذلك الزمن, في النصف الثاني من القرن العاشر, أن (البوزجاني), وضع أساسًا علميًا, سار عليه علماء العالم من بعده, وأن العالم الإيطالي (كوبرنيكس) سوف يتوصل إلى هذه الحقيقة بعد ثلاثة قرون تقريبًا.

قال أحد تلاميذه حين سمع خبر رحيله ببغداد عن عمر يناهز الثامنة والأربعين:

- لعله كان يحس أن عمره قصير, لذا ترك لنا كل هذه الإنجازات الكثيرة.. في وقت قصير.

 


 

محمود قاسم