قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

رسوم: ممدوح طلعت

الجلوكي.. عندما يتلاحم الأكسير والصخرة

(أبي.. هل هذا ساحر.. أم هو رجل دجال)?

ونظر الأب (بن أيدمر) إلى ابنه الصغير (علي) وضحك, وهو يقول:

- هذا الرجل.. ليس ساحرًا, ولا دجالاً, إنه (عالم).

كان على الصغير (علي) أن يعرف الحقيقة, فعندما زار معمل أحد علماء المدينة, استرعى انتباهه أن العالم يضع مواد سائلة, على أخرى من الأحجار, فتذوب, وتتولد أشياء جديدة.

قال الأب: هذه هي الكيمياء.. إنها علم التحولات.. الأشياء تتحول من صورة إلى صورة. وقرر الصغير (علي) أن يعرف الكثير عن هذه التحولات, إنه الآن في العاشرة من العمر, في عام 673 هجرية, وهو يعيش مع أسرته في إحدى قرى (خراسان).

في البداية, كان كل شيء أشبه بألعاب الأطفال, يقوم بصحن الصخور, ويحولها إلى ما يشبه المسحوق, ثم يضيف عليها بعض المواد, فتتولد مواد جديدة, ذات خواص مختلفة, فيصيح بكل سعادة: أنا ساحر.. أنا ساحر.

وهنا يقوم الأب من مكانه, ويقول: حتى الآن, أنت ساحر.. الساحر الصغير, لكنك لو درست ما تفعله, فسوف تكون عالمًا.

لم يكن يهمه أن يكون عالمًا, بل هو لايزال في مرحلة اللعب, لكن سرعان ما وجد نفسه شابًا مليئًا بالنشاط, والاجتهاد, وأن عليه أن يكون مصدر احترام للآخرين, وليس الساحر بالمرء المحترم.

لذا, بدأ في الدراسة, عرف أن أي مادة في الكون تكون إما سائلة, أو غازية, أو صلبة, وأن علم الكيمياء يدرس تحول المادة, من صورة إلى أخرى, وأن التبخر, يمكن أن يحول السائل إلى غازات, وأن درجات الحرارة العالية, تحول الذهب - وهو معدن ثمين - إلى سائل, حتى إذا صار الذهب باردًا عاد مرة أخرى إلى حالته الصلبة, اللامعة.

وبدأ علي - المولود في جلوك - في قراءة كتب الأساتذة الكبار من العلماء, وعلى رأسهم جابر بن حيان, وقرأ له أن الكيمياء من العلوم الخفية. لذا, فإن (الجلوكي), أطلق على اسم كتابه الأول (كشف المستور), وقال: العلم كالماء والهواء.. فيه متنفس للجميع, خاصة الكيمياء..

ومن أجل معرفة المزيد من العلم, قرر أن يسافر خارج (خراسان), ووصل إلى مدينة القاهرة, وهناك عكف على تأليف كتابه الشهير (كتاب البرهان).

أثبت في كتابه أن هناك فارقًا بين (السحر), و(العلم), فالأول يعتمد على المهارات, وخفة اليد, وأساليب الخداع البصرية, أما العلم, فهو يحتاج إلى براهين مؤكدة.

وذاع صيت العالم الشاب بين أساتذته, وانضم إلى مجموعة علماء الأزهر, فصار واحدًا منهم, وهو الأصغر سنًا, وعرفوا أنه يهتم بعلم الميزان, وهو اسم آخر لعلم الكيمياء.

فالكيمياء تعتمد في المقام الأول الموازين.

فلو أضفنا كمية ما من عنصر ما, إلى كمية محددة من عنصر آخر, فإن الاثنين يتلاحمان, ويصيران شيئًا ثالثًا.

ولو ضاعفنا كمية العنصر الأول, مع ثبات كمية الثاني, لاختلفت النتيجة, ومن هنا جاءت أهمية كتاب (البرهان في أسرار علم الميزان), وهو كتاب ضخم يقع في أربعة أجزاء.

وتتابعت عناوين الكتب التي ألفها الرجل في علم الكيمياء, فقد كتب مؤلفه الشهير (البدر المنير في معرفة أسرار الأكسير), ليثبت أن الأكسير, والمقصود به الشراب, أو السائل ذو الفائدة, هو أساس الحياة.

وقضى سنوات طويلة في دراسة الصخور, وهو ما عرف فيما بعد بعلم الجيولوجيا, وفي عام 740 هجري (1339 ميلادي) انتهى من تأليف كتابه الأول عن (نتائج الفكر في الفحص عن الحجر).

وصار هذا الكتاب بمنزلة المرجع الأول لجميع علوم الصخور.

وما إن انتهى من إعداد كتابه عن الحجر, حتى بدأ في إعداد دراسات قصيرة عن الذهب والنحاس والزئبق والفضة والمعارف المهنية, وبلغ عدد ما كتب قرابة العشرين مؤلفًا في علم الكيمياء, لدرجة أن أحد علماء القرن العشرين قال: لم ينافس (جابر بن حيان) في سعة علمه, في الكيمياء, سوى علي الجلوكي.

جاء هذا التقدير بعد ثمانية قرون كاملة من وفاة العالم الذي توفي عام 743 هجري.

 


 

محمود قاسم