أيام زمان.. في رمضان

أيام زمان.. في رمضان

رسوم: صلاح بيصار

ليلة الرؤية:

وإذا ما رحلنا في الزمان.. إلى عصر الدولة الفاطمية في القاهرة , نجد أن الخليفة الفاطمي كان يخرج في مهرجان رسمي من (باب الذهب) أحد أبواب القصر الفاطمي الكبير, متحليًا بأفخم ملابسه وحوله الوزراء والأمراء بملابسهم المزركشة وخيولهم.

ويمضي موكب الخليفة, ليمر من (باب الفتوح.. ويعود من (باب النصر) إلى (باب الذهب) حيث يستقبله قراء القرآن الكريم, وتوزع الصدقات على الفقراء والمساكين, ويرسل إلى كل أمير بطبق من الفضة مملوء بالحلوى تتوسطه صرة من الدنانير الذهبية!

وفي عصر سلاطين المماليك, وعصر الدولة العثمانية, كان (قاضي القضاة) يخرج لرؤية الهلال - من فوق منارة مدرسة المنصور قلاوون بشارع المعز لدين الله - ومعه القضاة الأربعة والمحتسب ورؤساء الطوائف والحرف كشهود, فإذا ما ثبتت رؤية الهلال, اجتمعوا في (بيت القاضي) وكتبوا (الحجة الشرعية).. ويخرج قاضي القضاة والمحتسب في موكب تحيط بهما المشاعل والفوانيس ودراويش الصوفية وجموع الشعب وتضاء المساجد, وتوضع القناديل والفوانيس الضخمة على أبواب البيوت وفي الأسواق والطرقات.. وتتحول القاهرة إلى كتلة من النور!

وأذكر - وتذكر الأجيال الماضية - صورة استقبال رمضان بإطلاق المدافع من القلعة, ومن ساحة المشهد الحسيني ومن ميدان السيدة زينب, تنطلق مواكب الاحتفالات... فرق الجيش والشرطة بموسيقاها المميزة... ومواكب دراويش الصوفية بالشارات والبيارق والطبول والدفوف... ومواكب أرباب الحرف, وكل حرفة تمثلها عربة مزدانة بالزهور والفوانيس ورموز من أدوات الحرفة... كانت هذه المواكب تنطلق في جو من البهجة والفرح العام في شوارع القاهرة حتى تصل إلى مبنى المحافظة ومنها إلى (دار الإفتاء) في مبناها القديم بباب الخلق.

وفي المنطقة المحيطة بساحة مشهد مولانا الإمام الحسين, كانت تنتشر سرادقات الفن الشعبي.. كان أشهرها سرادق الفنان الراحل (مداح الرسول - محمد الكحلاوي).. وغيره من نجوم الطرب الشعبي: محمد طه وأبو دراع وخضرة... إلى جانب سرادقات الإنشاد الديني ومسرح (السامر) أيام الراحل العظيم (زكريا الحجاوي) بحديقة الخالدين.

وفي ميدان القلعة وسكة المحجر وشارع السيدة عائشة حتى ميدان السيدة نفيسة.. كانت تنتشر عروض المسرح الشعبي والأراجوز وخيال الظل والقرداتية والحواة!

وفي حي السيدة زينب.. كانت تنتشر أيضًا عروض الفنون الشعبية.. وسيرك (أولاد عاكف) وسيرك (الحلو) في شارع الماوردي وشارع مراسينا وزين العابدين حتى حي المدبح!

ومن الظواهر التي اختفت من حياة القاهريين (شاعر الربابة).. الذي تحدثت عنه كتب الرحالة الأجانب.. وشهد أجدادنا مجالسه حتى بداية انتشار الراديو في العقد الثالث من القرن الماضي.. فقد كان أصحاب المقاهي حريصين على الاتفاق مع شاعر الربابة, لإحياء ليالي رمضان في مقاهيهم.. كان الشاعر يتصدر المقهى على دكة خشبية, ويروي على الربابة بعض السير الشعبية التي تجتذب أسماع الرواد مثل سيرة عنترة, وأبو زيد الهلالي, والزناتي خليفة والظاهر بيبرس.

فوانيس رمضان

من أبرز مظاهر الاحتفال بهذا الشهر الكريم (فوانيس رمضان).. بألوانها وأشكالها وأحجامها المختلفة, وبالرغم من طول الزمان والفوانيس (البلاستيكية)!.. فما زال للشكل التقليدي للفانوس الزجاجي الملون سحره الخاص!

وقد تباينت الروايات التاريخية حول أصل هذه العادة.. فتشير بعض المصادر التاريخية إلى خروج أهل القاهرة لاستقبال موكب الخليفة المعز لدين الله بالفوانيس والمشاعل والمباخر, وكان دخوله القاهرة ليلاً في الخامس من رمضان عام 358 هـ.

وتذهب بعض المصادر الأخرى إلى أن الخليفة الفاطمي (الحاكم بأمر الله) قد حرم على النساء الخروج من بيوتهن, باستثناء ليالي شهر رمضان لزيارة أقاربهن.. فكانت السيدة تسير في الطرقات يتقدمها خادم صغير يحمل في يده فانوسا بشمعة... وتتعاقب القرون وخرجت النساء كيف شئن.. وبقي الفانوس في أيدي الأطفال كتقليد رمضاني متوارث!

لكن من الثابت أنها كانت تعلق بأعلى المآذن, منذ أذان المغرب حتى موعد الإمساك, كما كانت تستخدم في إضاءة الطرقات والحارات في عتمة الليل وقت صلاة التراويح حتى صلاة الفجر.

كانت سعادتنا تبلغ ذروتها في ليالي رمضان, حيث تتزايد فرص لعبنا خارج البيوت, وقد أيقنا تمامًا أن كل (العفاريت) قد قيدت في هذا الشهر الكريم, وكان اعتقاد الناس قديما أن رمضان (ملك) من الملائكة, فإذا هل هلاله, قام بتقييد العفاريت والجان في قماقم من النحاس, حتى يرتاح منها الناس ويتحركوا في أمان طوال الشهر المبارك!

المسحراتي:

اختلف أسلوب التسحير لإيقاظ النائمين, من عصر إلى عصر, ففي زمن خاتم الأنبياء كان (بلال) بصوته الجميل يتولى هذه المهمة. وفي عصر الولاة, كان يكلف رجال يدعون الناس للسحور سيرًا على الأقدام من مدينة العسكر إلى جامع عمرو.. وفي العصر الفاطمي, كان يؤذن للسحور من المنابر.. حتى ظهر (ابن نقطة) المسحراتي الخاص للسلطان الناصر محمد, وكان شيخ طائفة المسحراتية في عصره ومخترع فن (القومة) الذي لم يحفظ لنا التاريخ إلا نماذج قليلة منه, وهي من أشكال التسابيح والابتهالات, دون إشارة إلى مضمون اجتماعي أو ثقافي.

ثم راح المسحراتية يتفننون في الأداء, واستخلاص المعاني لحث الناس على الصيام والقيام وطلب المغفرة, وإنشاد قصص المعجزات وتوزيع (التحايا).. وكان لكل حي المسحراتي الخاص به, وفي الأسبوع الأخير من شعبان, يطوف على بيوت الحي, ليكتب أسماء من استجد من الأطفال والسكان.

سقى الله ورعى تلك الأيام.. التي كانت فيها ليالي رمضان في القاهرة: آيات من الفن والنور.. تعددت ألوانها واتسعت دائرة بهجتها!

 


 

عرفة عبده علي

 




كنا نرقب مقدم رمضان - في زمن الطفولة - ونحسب له الأيام والليالي, فإذا ما أهلَّ فرحنا به وضحكت أرواحنا, لأننا كنا نرى الدنيا تفرح له وتبتهج بقدومه