قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

رسوم: ممدوح طلعت

ابن الرزاز الجزري سر.. الأواني المستطرقة

نظرت الأم إلى ابنها الصغير, وهو يقوم بفك اللعبة النحاسية الصغيرة, فقالت لزوجها (أبو العز):

- انظر... إلى أنامل ابنك, إنها تتحرك بشكل غريب, وهو يفك اللعبة.. كأنه يعزف الموسيقى..

لم يعلق الأب, التركماني الأصل, على ملاحظة زوجته بكلمة واحدة, لكنه بدأ في مراقبة الابن, وتعمد خلال الأسابيع التالية أن يأتيه بأجهزة حقيقية, وليست ألعابا.

جاء إليه بمزول, واسطرلاب.. وأخذ يراقبه..

ودهش الأب, حين شاهد مجموعة من القطع الخشبية, وقد قام ابنه بتشكيلها, على هيئة أجهزة يستخدمها الناس..

وقرر الأب أن يذهب بابنه إلى حي الحرفيين في المدينة, كي يتعلم النقش على النحاس, أو ما شابه.. وبعد أسابيع. قال صاحب العمل:

- ابنك لا ينفع عندي.. خذه إلى مكان آخر..

انزعج الأب, وتساءل عما حدث, واكتشف أنه ظلم ابنه, وأنه من الأفضل أن يذهب به إلى المرصد الواقع خارج المدينة.

وهناك, وصل بديع الزمان الرزاز, وهو في الثانية عشرة, العام 1167م, ورأى أجهزة الرصد الفلكي, وأجهزة القياس الدقيق, فأخذ يرسمها على ورق أبيض..

اندهش العالم (الكمري) من براعة هذا الصغير, وكانت المفاجأة, أنه صحبه بعد شهر واحد إلى بلاط الحاكم, وقدمه إليه, قائلا:

- مولاي.. نصير الدين الأرطوقي, ملك الديار.. رزقنا الله في بلادنا... بهذا الصغير الموهوب في الابتكار, والاختراع..

كان (الكمري) يعرف مدى حب الحاكم للعلم, والعلماء, وبالفعل, فقد أصدر (الأرطوقي) مرسومًا بأن ينضم الصبي إلى خدمة الأسرة المالكة..

ووجد (بديع الزمان) نفسه أمام مختلف التسهيلات التي أتاحها له الحاكم, وبدأ في ممارسة هوايته في تقليد تصنيع العدد, والآلات والأجهزة.

وعندما بلغ العشرين من العمر, كان قد استوعب كل الأجهزة الدقيقة المعروفة, وتفرغ لدراسة كتب من سبقوه, ومن عاصروه, خصوصًا, هؤلاء الذين نبغوا في صناعة الآلات المائية, والمتحركة.

ونجح في تصنيع ساعة بالغة الدقة, أهداها إلى مولاه (نصير الدين) ففرح بها بشدة, وعندما طلب من الحاكم أن يحقق له أمنية, قال (بديع الزمان):

- أريد أن أرحل حول العالم.. كي أشاهد ماذا أنجز الآخرون..

وأمر له الحاكم بما يتمنى.. وسافر إلى بلاد عديدة, ثم استقر به الأمر في إحدى الجزر, فاختار أن يبقى بها, كي يستكمل تأليف كتابه (الهيئة والأشكال).

سأله أحد أصدقائه:

- هل نترك بلاط الملك, ونقيم في جزيرة ليس فيها ما يجذب الانتباه.. رد العالم قائلا:

- هنا.. أشعر بالأمن والسلام.. وأستطيع أن أنجز بشكل أفضل..

وسمع الحاكم هذه العبارة عن طريق أتباعه, فقال: دعوه.. فقط أنتظر إنجازاته..

وفي الجزيرة, انتهى من تأليف كتابه عن رحلاته وأسماه (كتاب الحيل في الجمع بين العلم والعمل), أهداه إلى مولاه.

وعرف (بديع الزمان) باسم (الجزري) نسبة إلى الجزيرة التي أقام فيها.. كان يتفنن في عمل أجهزة, وآلات كثيرة, يرسل بها إلى الملك, حيث أعد له إبريقا كبيرًا, بديع الشكل, كي يتوضأ به, بطريقة أسهل..

ولم يعرف أحد في بداية القرن الثالث عشر الميلادي, أن الإبريق يعمل بظاهرة, تسمى الأواني المستطرقة.

أي ان (ابن الرزاز الجزري) كان أول من اكتشف هذه الظاهرة العلمية المهمة.

وفي كتابه, وصف (الجزري) تفاصيل الأواني المستطرقة, وطريقة عملها, وخزان الماء اللازم لها, ومنظم سريان الماء.. وطريقة تثبيت الساعة.

كما ذكر ايضًا أبعاد الدائرة التي يفيض فيها الماء.

وعندما انتهى من تأليف كتابه, أمر الحاكم بسرعة طباعته, وتوزيعه, كي يستفيد منه الجميع في كل الأنحاء.

كان الكتاب يتضمن ثلاثة مجلدات ضخمة.

هذا الكتاب عرف طريقه إلى العديد من جامعات العالم, بعد وفاة صاحبه بقرن من الزمن, وتمت ترجمته إلى لغات عديدة, وصار مرجعًا مهمًا لدى العلماء الذين اهتموا بالتكنولوجيا, وتحويل النظريات العلمية إلى أجهزة, تفيد الناس..

صباح اليوم, وقف تلميذ, ينظر إلى أنابيب الأواني المستطرقة, مندهشًا, ولاحظ المدرس هذه الدهشة, فأخذ يشرحها لتلاميذه, وقال:

- إذا أردتم معرفة المزيد.. فاقرؤوا عن حياة (ابن الرزاز الجزري).

 


 

محمود قاسم