قمريات الجبل!

قمريات الجبل!
        

رسوم: حلمي التوني

          اعتادتْ القمرياتُ البيضاءُ النادرةُ الطيرانَ في سربٍ يطوفُ فوقَ حقولِ القريةِ بالواحةِ الصغيرةِ ومعها القمريةُ الرئيسةُ.

          تعلو جماعتُها للسماءِ الصافيةِ الزرقاءِ، في منظرٍ بديعٍ بأجنحتها البيضاءِ الرشيقةِ، وتعود للدورانِ مراتٍ ومراتٍ فوقَ أشجارِ الزيتونِ ثم تصعد لأعلى وتصعد كالمعتادِ وتهبط بسرعةٍٍ كبيرةٍ وتختفي وراءَ أكمامِ النخيلِ الكثيفِ العالي، تستمتع بالطيرانِ، ولا يعرف أحدٌ منْ القريةِ أينَ تسكن هذه القماري البيضاء الرقيقة؟!

          ظلّتْ القماري كالمعتادِ تسلك هذا الطريقِ كل يومٍ حيثُ تهبط فجأةً بسرعةٍ كبيرةٍ وتختفي وتهبط للرمالِ الدافئة البيضاءِ للهو والاستمتاعِ باللعبِ فيها تنظف ريشها وتبقى في اللهوِ وكأنها تسبح في الرمالِ الناعمةِ البيضاءِ، وتغطس ولا تظهر للناظرِ ولا يبصرها أحد!

          وذات مرة صادف أن أدركَ صيادٌ  كعادة الصيادين ببصرهِ الحادِ القماري البيضاء النادرةِ وعرف مسلكها بالرغم من المعروفِ عنها من شدَّة الحذرِ والذكاءِ والحرصِ.

          أخذَ الصيادُ يعدُّ لها خطةً ماكرةً ليمسك بها ويوقعها في شباكِه قبل غيرِه من الصيادين.

          تسللَّ الصيادُ مبكرًا قبل مجيء القماري البيضاء لمكانها المعتاد بالصحراءِ في وقتِ الظهيرةِ كعادتها كل يومٍ.

          ألقى بخيوطِ شبكتِهِ وغطاها بالرمالِ وأمسكَ حبلَها بوتدٍ خشبي ثم نثرَ فوقَها حباتَ الأُذرة الرفيعةِ والشاميةِ.

          وجهّز الشبكةَ لتكون مستعدةً بالانطباقِ على القمريات عند مقدمها لالتقاطِ الحبوبِ، وعندما جاءت القماري اقتربت بلا حذر، واندفعت أولُها وجرت تلتقطُ الحبوبَ، واندفعت باقي أخواتُها وراءَها دونما تساؤل من إحداها، بينما حذّرت القمريةُ الرئيسةُ، وطلبت التمهلَ والاقترابَ، والتقاط الحبوبِ بحذرٍ، ولا يقرب الجميعُ معًا حتى يأخذوا منها إشارة الأمان، ولم تسمع القمريات نداءَها، فقد أخفاهُ الهواءُ واقتربت بسرعةٍ أكثر لحبها هذا الطعام، ولم تلتفت القمريات للتنبيهِ بعدم الاقترابِ على الفورِ والتعجيلِ بالأكلِ!

          حدث المكروهُ واضطربت القماري بشدةٍ، وحاولت الطيرانِ، لكن دونما جدوى، فقد أطبقَ الفخُّ بالشبكةِ عليها، وثار الغبارُ مع ضرباتِ الأجنحةِ الجزعة، التي أصبحت أسيرةً والتي حاولت الخلاص على الفورِ من وقع المفاجأةِ.

          طلبت القمريةُ الرئيسة من القمريات في الحالِ الهدوءَ قليلاً، من صدمةِ الجزعِ حتى لا تغيب طرق النجاةِ، وتُفقد أبسط الحلول، وتتعقد المشكلةُ وتعلق الأجنحةِ بخيوطِ الشبكةِ أكثر، وبفضل هذا الرأي الحكيم، هدأت القمرياتُ فأمكنها الانطلاق، بعدما استردت أنفاسها المتقطعة واستطاعت أن تحمل الشبكةَ بأرجلها وقويت ضرباتُ أجنحتها فاستطاعت الارتفاع والطيران عاليًا، وطارت إلى جوارها القمرية الرئيسة، وظلت تدفعها لعدمِ الاستسلامِ وخوار القوةِ، وتشدُّ عزمها، وواصلت القمريات الطيران حتى قمة الجبلِ، وهبطتُ بالشبكةِ جزعات، وطلبت القمريةُ الرئيسةُ الهدوءِ حتى لا تضيعَ أبسط الحلول ولا يفكر العقل، وهنا قالت القمري الرئيسة حكمتها: «بيدي ملكتُ أمْري وَلو تركتُه لغيري لضاعَ أمري وأكون قد فرطت في نفسي، وليت ينفع ندمي!!».. وهنا أمرت القمريات ألا تنتظر أن يجيءَ مَن يقرض لها الشبكةَ ويخلصها من سجنها وقالتْ القمريةُ الرئيسةُ: كيف وهل لنَا قُدرات لا نعرفها؟!

          انظروا إلى خيوطِ الشبكةِ، كلها خيوطٌ رفيعةٌ صغيرةٌ، قد فتلت ضفيرةً وصارت بذلك كبيرةً، إذا صبرنا وثابرنا لأمكننا أن نمزّقَ خيوطَها الصغيرةَ خيطًا خيطًا حتى نأتي على كبيرِها وعليها كلها!

          أيها القماري إنَّ لكم بصرًا حادًا، ومناقيرَ قويةً أقوى من الخيوط الصغيرةِ الضعيفةِ ولا يخدعكم شكلها.

          هيّا اعملوا، وبدأت القمرياتُ تعمل بدأبٍ وهمّةٍ في تنفيذِ تلك الطريقةِ الذكيةِ لإضعافِ الخيوط وتمزيقها، وبدأت الخيوطُ تتمزّقُ وتتمزّقُ، وصارت أسرع بفعل الإصرارِ والعزيمةِ، وعندما انتهت بفضلِ حكمةِ القمريةِ الرشيدِ، نجحت القمرياتُ، وبينما هي كذلك، أبصرت الصياد قد جاءَ يسعى في الإمساكِ بها فأسرعت بالطيرانِ بعيدًا.

          وقالت القمريات: لو انتظرنا أن يجيء لنا مَن يخلّصنا، ما نجونا وكنّا في الشبكةِ أسيراتٍ!

 

 


 

حسن نصار