العالم يتقدم.. غواصةُ الماءِ.. والفضاءِ.. إعداد: رؤوف وصفى

العالم يتقدم.. غواصةُ الماءِ.. والفضاءِ.. إعداد: رؤوف وصفى
        

          تخيل أنك رائد فضاء، وقد طلب منك رئيسك استكشاف محيط على «يوروبا»  أحد أقمار كوكب المشتري الذي يبعد عنا بمئات الملايين من الكيلومترات، علما بأن هذا المحيط يقع تحت طبقة من الجليد سمكها عشرة كيلومترات على الأقل، فما الذي تحتاج إليه ؟ الأرجح انك سوف تحتاج إلى مركبة فضائية للهبوط فوق القمر «يوروبا» ووسيلة لحفر الجليد وغواصة ذات مواصفات خاصة، لكى تستكشف هذا المحيط، وتنقل ما تصل إليه من نتائج إلى كوكب الأرض.

          هذه الغواصة موضوع مشروع يعكف عليه مجموعة من الخبراء، نجحت في إعداد نموذج أولي لمركبة مستقلة ذاتيًا تغوص تحت الماء، وتسمى «مستكشفة الأعماق» ويمكنها استكشاف الأعماق البعيدة في المحيطات. ويقوم الخبراء في الوقت الحاضر بتجربتها في كهف كبير تحت سطح الماء، يصل عمقه إلى نحو كيلومتر!

          ومشروع الغواصة «مستكشفة الأعماق» التي يمكنها أن تهبط في مياه المحيط إلى أعماق بعيدة، واحد من سلسلة من المشروعات العلمية التي تمولها وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا)، في إطار برنامج تطوير مركبات آلية (روبوتية)، قادرة على استكشاف القمر «يوروبا» وخاصة محيطاته. ولقد أكملت «مستكشفة الأعماق» الاختبارات الأولية في خزان مائي هائل، حيث اختبرت أجهزتها عند تشغيلها وكذلك قدرتها على رسم خرائط للأعماق.. وتستعد في الوقت الحاضر لبدء اختبارات أخرى في بيئة مجهولة تمامًا عبارة عن منخفض رهيب في المحيط. والآن، لنلق نظره عن قرب على الغواصة «مستكشفة الأعماق».

          هذه الغواصة بيضاوية الشكل طولها نحو أربعة أمتار ووزنها 1.3 طن، ويمكنها أن تتحرك بحرية في الأعماق في كل الاتجاهات، ولكي تعمل مستقلة من دون أي توجيه خارجى، فإنها مزودة بستة محركات قوية (أربعة منها أفقية واثنان رأسيان) مما يسمح للغواصة بالمناورة في ثلاثة أبعاد، طولاً وعرضًا وارتفاعًا. وحتى تتمكن مستكشفة الأعماق من الطفو، فإنها مزودة بمحركي طفو، يعمل حاسوب (كمبيوتر) بهما، على قياس ضغط المياه  ودرجة حرارتها ونسبة ملوحتها ثم يحسب بسرعة فائقة قابلية الغواصة للطفو. وعندئذ يفتح الحاسب (أو يغلق) صمامات تسمح بإدخال (أو إخراج ) المياه من الغواصة.

          ولكن كيف يمكن للغواصة  «مستكشفة الأعماق» تعرّف الأجسام التي حولها؟ تسألني فأجيبك : تجهز الغواصة بنحو خمسين جهاز تحسس يعمل بالسونار. ونظام «السونار» يستخدم الأمواج الصوتية المنعكسة والمرسلة تحت الماء للكشف عن الأجسام، ويستخدم كذلك قياس المسافة إلى القاع. وهكذا يمكن للغواصة «مستكشفة الأعماق» أن تتعرّف الأجسام التي تحت الماء في حدود مسافة ثلاثمائة متر منها. ويقوم مسجل للسرعة بتحديد مقدار سرعة تحرك الغواصة ثم يغذي تلك المعلومات إلى الحاسوب، الذي يضبط سرعتها.  وعندما تتحرك هذه الغواصة، يقوم الحاسوب باستخدام معلومات «السونار» لتكوين صورة مجسمة ثلاثية الأبعاد، للبيئة المحيطة، ثم يحتفظ بها في ذاكرته لرسم خريطة هندسية تشمل تحديد المواقع. وتستخدم الغواصة » مستكشفة الأعماق » هذه الخريطة المجهزة بداخلها في الإبحار، بحيث يمكنها الذهاب إلى أى مكان محدد، من دون مساعدة من أي وسيلة إبحار خارجية.  ومستكشفة الأعماق مزودة بعدد كبير من بطاريات «الليثيوم» ذات الكفاءة العالية والقابلة للشحن، وتنتج هذه البطاريات طاقة تكفي لتشغيل الغواصة لمدة ثماني ساعات ثم يعاد شحنها.

          وربما تتساءل: كيف يمكن للغواصة «مستكشفة الأعماق» الاتصال بمراكز المتابعة فوق اليابسة؟ يتم هذا بواسطة أجهزة بالغة الحساسية موجودة على سطحها سواء عندما تكون طافية أو غاطسة تحت سطح الماء. وتستخدم هذه الأجهزة في إرسال البيانات واستقبال تعليمات التشغيل، كلما كان ذلك ضروريا.  كما تزود هذه الغواصة الفريدة المتطورة، بكاميرا تصوير رقمية واسعة المدى، بإمكانها التقاط صور بالغة الدقة لما يوجد في الأعماق، كذلك لها عدة اذرع طويلة يمكنها جمع عينات صلبة وسائلة وتحليلها في مختبر بداخلها وإرسال النتائج أولا فأولاً للخبراء فوق اليابسة، وبالإضافة إلى كل هذه الأجهزة، يوجد على متن الغواصة مجهر خاص للمساعدة في الكشف عن الكائنات الدقيقة التي قد توجد في أعماق المحيطات.

          وإذا كانت التجارب تجرى على الغواصة «مستكشفة الأعماق» تمهيدا لإرسالها لاستكشاف محيطات القمر «يوروبا» فقد يثار تساؤل: لماذا يعد القمر «يوروبا» هدفًا فضائيًا مثيراً للاستكشاف؟

          لقد أظهرت المركبتان الفضائيتان.. «فوياجر»  و«جاليليو» أن القمر «يوروبا» مغطى بطبقة من الجليد. وبسبب قرب «يوروبا» من المشتري، فإن جاذبية هذا الكوكب العملاق تشده بقوة في اتجاهه، ومن ثم «تمط» و«تضغط» القمر على التوالى، في أثناء دورانه حول الكوكب.  وهذه القوى الجاذبية الهائلة تنشئ «حرارة» على سطح القمر «يورويا»، ولا تلبث تلك الحرارة أن تتبدد من خلال النشاط البركاني فوق القمر، ويمكنها أن «تدفئ» ما تحت هذه الطبقة الجليدية، مما يؤدي إلى وجود محيط سائل أسفلها.

          ويوجد دليل على وجود محيط سائل في الصور التي التقطتها المركبتان الفضائيتان «فوياجر» و«جاليليو»، والتي أظهرت وجود تشققات في طبقة الجليد التي يبلغ سمكها نحو عشرة كيلومترات. ويمكن رؤية أشكال مماثلة في الطبقة الجليدية القطبية في كوكب الأرض، في الصور التي التقطتها الأقمار الاصطناعية التي تدور حول الأرض.

          وتدل القياسات العلمية لمحيط القمر «يوروبا» على أنه قد يكون مالحا، وان هناك قدراً كافيا من الحرارة المتولدة من قوى المد والجزر ـ بتأثير كوكب المشتري، لتكوين محيط سائل غالبًا من الماء.

          ويعتقد الخبراء، أن حياة الكائنات الدقيقة تحتاج إلى ماء سائل ومركبات عضوية تحتوي على الكربون ومصدر للطاقة. ويبدو أن القمر «يوروبا» يتمتع بكل هذه الأشياء، وبالتالي يمكن وجود كائنات دقيقة حية في محيطه. وسوف تتضمن البعثة العلمية غير المأهولة إلى «يوروبا» الغواصة «مستكشفة الأعماق» ومعدات علمية أخرى، يمكنها استكشاف محيط هذا القمر، وتنفيذ تجارب علمية ـ خاصة البحث عن كائنات حية ـ ثم إرسال تلك النتائج إلى الأرض. وربما نفاجأ بوجود «جيران» لنا في القمر «يوروبا»، حتى لو كانوا في شكل كائنات دقيقة حية!

 


 

رؤوف وصفى