بيتنا الأرض.. د. محمد المخزنجي

بيتنا الأرض.. د. محمد المخزنجي
        

سر جبروت الأخطبوط

          سألني صديقي الصغير «حمود» إن كنت شاهدت تلك اللقطات المرعبة لذلك الأخطبوط المقلد أو الممثل «ميميك أُكتوبس» على موقع «يو تيوب» بالإنترنت، ولم أكن شاهدت ما يتكلم عنه، ولفتت نظري تعبيرات الاستغراب والفزع في وجهه وهو يصف ما شاهده، فقررت أن ألقي نظرة، خاصة أن حمود طلب مني تفسيرا لهذه اللقطات إن كانت حقيقية. جلست أمام الكمبيوتر وكتبت في خانة البحث بموقع «يو تيوب»: «mimic octopus». وكانت دهشتي بالفعل عظيمة لغرابة ما أراه، فاللقطات التي تم تصويرها تحت الماء كانت حقيقية وليست بها أي حيل للخداع، وفيها نرى شجيرة عشب بحري تمر إلى جوارها سمكة صغيرة وديعة، وسرعان ما تتحول الشجرة أمام العين وتصير أخطبوطًا يمسك بالسمكة ويلتهمها. وكانت هناك لقطة لهذا الأخطبوط وهو يتحول إلى هيئة ثعبان بحر مخطط بألوان فاتحة وأخرى غامقة، ولقطة له وهو يتحول إلى شكل صخرة بحرية لم يكن ممكنًا أبدا تمييزها بين الصخور البحرية الحقيقية من حولها. كان ذلك عجيبًا ومخيفًا أيضًا. واستولى عليّ الفضول لمعرفة مزيد من أسرار هذا الأخطبوط، فلم أنم حتى طفت بكل المواقع العلمية الممكنة التي تصور أو تتكلم عن الأخطبوطات، وعدت إلى مراجعي عن الحيوانات والكائنات البحرية، لعلي أكتشف السر.. سر جبروت هذا الأخطبوط. عرفت أنه واحد من «الرخويات» التي تسكن أعماق البحار والمحيطات الدافئة. ويسمى «المقلد» لأنه يمتلك براعة مذهلة في تقليد مايخدم أهدافه. يصير صخرة ليقتنص قريدس (روبيان) يلوذ بظلها. ويتحول إلى ثعبان بحر مخطط إذا واجه سمكة قرش، لأن القرش يخشى ثعبان البحر السام. قدرة عجيبة على التحول والتلون وذكاء مخيف أثبت العلماء أنه يتضمن إمكانية أن يتعلم من تجاربه كما الإنسان، مما يؤكد أنه يمتلك ذاكرة قوية. وهو يفكر ويدبر حتى انه يتسلق مراكب الصيادين ليسرق بعضًا مما صادوه عندما يكون جائعًا ولا يجد ما يأكله. كما انه يجيد تقمص شخصيات عديدة لا يشبه أحدها الآخر.. نجم بحر أو سلطعون أوكتلة شعاب مرجانية. مخلوق مرعب كدت أكرهه برغم تعاطفي مع هذه الكائنات التي تحركها الغريزة وضرورات الحياة، لكنني تأثرت بشدة وأشفقت على هذا الأخطبوط وأنا أقرأ عن حياته بالغة القصر التي تنتهي في أعقاب خروج صغاره إلى قاع المحيط، فهو يموت بطريقة مؤلمة ومثيرة للأسى، لأنه بعد أن يودع صغاره يبكي بدموع سامة تفرزها غدد في عينيه فتقتله. أما حيله ومراوغاته وتحولاته وتلوناته، فهي جميعًا أساليب يدافع بها عن كيانه بالغ الضعف الذي يتلخص في أنه مجرد غلاف بلا عظام ولا غضاريف ولا أي شيء صلب عدا منقاره الذي يقتات به. باختصار هو مجرد غشاء مرن وجسد رخو في محيط عات (جبّار) يجوبه القتلة والمفترسون. وهو لا يلجأ لكل هذه الألاعيب الجبارة التي تغير شكله ولونه إلا ليحمي نفسه ويواصل حياته القصيرة. يرعب أعداءه المفترسين بتقليد ما يخافون منه، ويلتقط طعامه بتقليد أشياء لا تخاف منها الكائنات التي يتخذها مصدرًا للطعام. حكيت ذلك لصديقي الصغير «حمود». ورأيت ملامحه تتغير من التعبير عن الاستغراب والرعب، إلى التعاطف العميق والشفقة، لكنه مع ذلك ظل متحيرًا.

 


 

محمد المخزنجي